[ ص: 58 ] وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون
لما ذكر الاعتبار بخلق الأرض وما فيها ناسب بحكم الطباق ذكر خلق السماء عقبه ، إلا أن حالة خلق الأرض فيها منافع للناس . فعقب ذكرها بالامتنان بقوله تعالى : أن تميد بهم ، وبقوله تعالى : لعلهم يهتدون . وأما حال خلق السماء فلا تظهر فيه منفعة ، فلم يذكر بعده امتنان ، ولكنه ذكر إعراضهم عن التدبر في آيات خلق السماء الدالة على الحكمة البالغة فعقب بقوله تعالى : وهم عن آياتها معرضون ; فأدمج في خلال ذلك منة وهي حفظ السماء من أن تقع بعض الأجرام الكائنة فيها أو بعض أجزائها على الأرض فتهلك الناس أو تفسد الأرض فتعطل منافعها ، فذلك إدماج للمنة في خلال الغرض المقصود الذي لا مندوحة عن العبرة به .
والسقف حقيقته : غطاء فضاء البيت الموضوع على جدرانه ، ولا يقال السقف على غطاء الخباء والخيمة ، وأطلق السقف على السماء على طريقة التشبيه البليغ ، أي جعلناها كالسقف ؛ لأن السماء ليست موضوعة على عمد من الأرض ، قال تعالى : الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها وقد تقدم في أول سورة الرعد ، وجملة وهم عن آياتها معرضون في موضع الحال ، وآيات السماء : ما تشتمل عليه السماء من الشمس والقمر والكواكب والشهب وسيرها وشروقها وغروبها وظهورها وغيبتها ، وابتناء ذلك على حساب قويم وترتيب عجيب ، وكلها دلائل على الحكمة البالغة [ ص: 59 ] فلذلك سماها آيات . وكذلك ما يبدو لنا من جهة السماء مثل السحاب والبرق والرعد .
وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر
لما كانت في إيجاد هذه الأشياء المعدودة هنا منافع للناس سيقت في معرض المنة بصوغها في صيغة الجملة الاسمية المعرفة الجزأين ؛ لإفادة القصر ، وهو قصر إفراد إضافي بتنزيل المخاطبين من المشركين منزلة من يعتقد أن أصنامهم مشاركة لله في خلق تلك الأشياء ؛ لأنهم لما عبدوا الأصنام والعبادة شكر ، لزمهم أنهم يشكرونها وقد جعلوها شركاء لله ، فلزمهم أنهم يزعمون أنها شريكة لله في خلق ما خلق لينتقل من ذلك إلى إبطال إشراكهم إياها في الإلهية .
ولكون المنة والعبرة في إيجاد نفس الليل والنهار ونفس الشمس والقمر ، لا في إيجادها على حالة خاصة - جيء هنا بفعل الخلق لا بفعل الجعل .
وخلق الليل هو جزء من جزئيات خلق الظلمة التي أوجد الله الكائنات فيها قبل خلق الأجسام التي تفيض النور على الموجودات ، فإن الظلمة عدم ، والنور وجودي وهو ضد الظلمة ، والعدم سابق للوجود ، فالحالة السابقة لوجود الأجرام النيرة هي الظلمة ، والليل ظلمة ترجع لجرم الأرض عند انصراف الأشعة عن الأرض ، وأما خلق النهار فهو بخلق الشمس ومن توجه أشعتها إلى النصف المقابل للأشعة من الكرة الأرضية ، فخلق النهار تبع لخلق الشمس وخلق الأرض ومقابلة الأرض لأشعة الشمس ؛ ولذلك كان لذكر خلق [ ص: 60 ] الشمس عقب ذكر خلق النهار مناسبة قوية للتنبيه على منشأ خلق النهار كما هو معلوم ، وأما ذكر خلق القمر فلمناسبة خلق الشمس ، وللتذكير بمنة إيجاد ما ينير على الناس بعض النور في بعض أوقات الظلمة . وكل ذلك من المنن .