والذين هم على صلواتهم يحافظون [ ص: 18 ] ثناء على المؤمنين بالمحافظة على الصلوات ، أي بعدم إضاعتها أو إضاعة بعضها . والمحافظة مستعملة في المبالغة في الحفظ إذ ليست المفاعلة هنا حقيقية كقوله تعالى : حافظوا على الصلوات وتقدم معنى الحفظ قريبا .
وجيء بالصلوات بصيغة الجمع للإشارة إلى المحافظة على أعدادها كلها تنصيصا على العموم .
وإنما ذكر هذا مع ما تقدم من قوله : الذين هم في صلاتهم خاشعون ; لأن ذكر الصلاة هنالك جاء تبعا للخشوع فأريد ختم صفات مدحهم بصفة محافظتهم على الصلوات ليكون لهذه الخصلة كمال الاستقرار في الذهن ; لأنها آخر ما قرع السمع من هذه الصفات .
وقد حصل بذلك تكرير ذكر الصلاة تنويها بها . وردا للعجز على الصدر تحسينا للكلام الذي ذكرت فيه تلك الصفات لتزداد النفس قبولا لسماعها ووعيها فتتأسى بها .
والقول في إعادة الموصول وتقديم المعمول وإضافة الصلوات إلى ضميرهم مثل القول في نظيره ونظائره .
وقرأ الجمهور : على صلواتهم بصيغة الجمع ، وقرأه حمزة والكسائي وخلف ( على صلاتهم ) بالإفراد .
وقد جمعت هذه الآية أصول التقوى الشرعية ; لأنها أتت على أعسر ما تراض له النفس من أعمال القلب والجوارح .
فجاءت بوصف الإيمان وهو أساس التقوى لقوله تعالى : ثم كان من الذين آمنوا وقوله : والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا .
ثم ذكرت الصلاة وهي عماد التقوى والتي تنهى عن الفحشاء والمنكر لما فيها من تكرر استحضار الوقوف بين يدي الله ومناجاته .
[ ص: 19 ] وذكرت الخشوع وهو تمام الطاعة ; لأن المرء قد يعمل الطاعة للخروج من عهدة التكليف غير مستحضر خشوعا لربه الذي كلفه بالأعمال الصالحة ، فإذا تخلق المؤمن بالخشوع اشتدت مراقبته ربه فامتثل واجتنب . فهذان من أعمال القلب .
وذكرت الإعراض عن اللغو ، واللغو من سوء الخلق المتعلق باللسان الذي يعسر إمساكه فإذا تخلق المؤمن بالإعراض عن اللغو فقد سهل عليه ما هو دون ذلك . وفي الإعراض عن اللغو خلق للسمع أيضا كما علمت .
وذكرت إعطاء الصدقات وفي ذلك مقاومة داء الشح ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون .
وذكرت حفظ الفرج . وفي ذلك خلق مقاومة اطراد الشهوة الغريزية بتعديلها وضبطها والترفع بها عن حضيض مشابهة البهائم فمن تخلق بذلك فقد صار كبح الشهوة ملكة له وخلقا .
وذكرت أداء الأمانة وهو مظهر للإنصاف وإعطاء ذي الحق حقه ومغالبة شهوة النفس لأمتعة الدنيا .
وذكرت الوفاء بالعهد وهو مظهر لخلق العدل في المعاملة والإنصاف من النفس بأن يبذل لأخيه ما يحب لنفسه من الوفاء .
وذكرت المحافظة على الصلوات وهو التخلق بالعناية والوقوف عند الحدود والمواقيت وذلك يجعل انتظام أمر الحياتين ملكة وخلقا راسخا .
وأنت إذا تأملت هذه الخصال وجدتها ترجع إلى حفظ ما من شأن النفوس إهماله مثل الصلاة والخشوع وترك اللغو وحفظ الفرج وحفظ العهد ، وإلى بذل ما من شأن النفوس إمساكه مثل الصدقة وأداء الأمانة .
فكان في مجموع ذلك أعمال ملكتي الفعل والترك في المهمات ، وهما منبع الأخلاق الفاضلة لمن تتبعها .
[ ص: 20 ] روى : النسائي عائشة قيل لها : كيف كان خلق رسول الله ؟ قالت : كان خلقه القرآن ، وقرأت : أن قد أفلح المؤمنون حتى انتهت إلى قوله : والذين هم على صلواتهم يحافظون . وقد كان خلق أهل الجاهلية على العكس من هذا ، فيما عدا حفظ العهد غالبا ، قال تعالى : وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية ، وقال في شأن المؤمنين مع الكافرين : وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين ، وقال : وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة ، وقد كان البغاء والزنى فاشيين في الجاهلية .