تفريع على الحكم الذي تقدمه وهو تحريم التبديل ، فكما تفرع عن الأمر بالعدل في الوصية وعيد المبدل لها ، وتفرع عن وعيد المبدل الإذن في تبديل هو من المعروف ، وهو تبديل الوصية التي فيها جور وحيف بطريقة بأن كان جديرا بالإيصاء إليه فتركه الموصي أو كان جديرا بمقدار فأجحف به الموصي ؛ لأن آية الوصية حصرت قسمة تركة الميت في اتباع وصيته وجعلت ذلك موكولا إلى أمانته بالمعروف ، فإذا حاف حيفا واضحا وجنف عن المعروف أمر ولاة الأمور بالصلح . ومعنى ( خاف ) هنا الظن والتوقع ؛ لأن ظن المكروه خوف ، فأطلق الخوف على لازمه ، وهو الظن والتوقع ، إشارة إلى أن ما توقعه المتوقع من قبيل المكروه ، والقرينة هي أن الجنف والإثم لا يخيفان أحدا ، ولا سيما من ليس من أهل الوصية وهو المصلح بين أهلها ، ومن إطلاق الخوف في مثل هذا - قول الإصلاح بين الموصى لهم وبين من ناله الحيف من تلك الوصية أبي محجن الثقفي :
أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
أي : أظن وأعلم شيئا مكروها ، ولذا قال قبله :تروي عظامي بعد موتي عروقها
والجنف : الحيف والميل والجور ، وفعله كفرح .والإثم المعصية ، فالمراد من الجنف هنا تفضيل من لا يستحق التفضيل على غيره من القرابة المساوي له أو الأحق ، فيشمل ما كان من ذلك عن غير قصد ، ولكنه في الواقع حيف في الحق ، والمراد بالإثم ما كان قصد الموصي به حرمان من يستحق أو تفضيل غيره عليه .
[ ص: 154 ] والإصلاح : جعل الشيء صالحا ، يقال : أصلحه ؛ أي : جعله صالحا ، ولذلك يطلق على الدخول بين الخصمين بالمراضاة ؛ لأنه يجعلهم صالحين بعد أن فسدوا ، ويقال : أصلح بينهم بتضمينه معنى دخل ، والضمير المجرور ببين في الآية عائد إلى الموصي والموصى لهم المفهومين من قوله : ( موص ) إذ يقتضي موصى لهم ، ومعنى فلا إثم عليه أنه لا يلحقه حرج من تغيير الوصية ؛ لأنه تغيير إلى ما فيه خير .
والمعنى : أن من وجد في وصية الموصي إضرارا ببعض أقربائه ، بأن حرمه من وصيته أو قدم عليه من هو أبعد نسبا ، أو أوصى إلى غني من أقربائه وترك فقيرهم فسعى في إصلاح ذلك ، وطلب من الموصي تبديل وصيته ، فلا إثم عليه في ذلك ؛ لأنه سعى في إصلاح بينهم ، أو حدث شقاق بين الأقربين بعد موت الموصي ؛ لأنه آثر بعضهم ، ولذلك عقبه بقوله : إن الله غفور رحيم وفيه تنويه بالمحافظة على تنفيذ وصايا الموصين حتى جعل تغيير جورهم محتاجا للإذن من الله تعالى ، والتنصيص على أنه مغفور .
وقرأ الجمهور : ( موص ) على أنه اسم فاعل " أوصى " ، وقرأه أبو بكر عن عاصم وحمزة ، ، والكسائي ويعقوب ، وخلف ( موص ) بفتح الواو وتشديد الصاد على أنه اسم فاعل " وصى " المضاعف .