والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى
عطف على جملة ( لا تتبعوا خطوات الشيطان ) عطف خاص على عام للاهتمام به ; لأنه قد يخفى أنه من خطوات الشيطان فإن من كيد الشيطان أن يأتي بوسوسة في صورة خواطر الخير إذا علم أن الموسوس إليه من الذين يتوخون البر والطاعة ، وأنه ممن يتعذر عليه ترويج وسوسته إذا كانت مكشوفة .
وإن من ذيول قصة الإفك أن أبا بكر رضي الله عنه كان ينفق على إذ كان ابن خالة مسطح بن أثاثة المطلبي وكان من فقراء أبي بكر الصديق المهاجرين فلما علم بخوضه في قضية الإفك أقسم أن لا ينفق عليه . ولما تاب مسطح وتاب الله عليه لم يزل أبو بكر واجدا في نفسه على مسطح [ ص: 189 ] فنزلت هذه الآية . فالمراد من أولي الفضل ابتداء أبو بكر ، والمراد من أولي القربى ابتداء وتعم الآية غيرهما ممن شاركوا في قضية الإفك وغيرهم ممن يشمله عموم لفظها فقد كان مسطح بن أثاثة ، لمسطح عائلة تنالهم نفقة أبي بكر . قال : إن ابن عباس وقالوا : والله لا نصل من تكلم في شأن جماعة المؤمنين قطعوا منافعهم عن كل من قال في الإفك عائشة ، فنزلت الآية في جميعهم .
ولما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية إلى قوله ألا تحبون أن يغفر الله لكم قال أبو بكر : بلى أحب أن يغفر الله لي . ورجع إلى مسطح وأهله ما كان ينفق عليهم . قال ابن عطية : وكفر أبو بكر عن يمينه . رواه عن عائشة .
وقرأ الجمهور ( ولا يأتل ) . والايتلاء افتعال من الألية وهي الحلف ، وأكثر استعمال الألية في الحلف على امتناع ، يقال : آلى وائتلى . وقد تقدم عند قوله تعالى : للذين يؤلون من نسائهم في سورة البقرة . وقرأه أبو جعفر ( ولا يتأل ) من تألى تفعل من الألية .
والفضل : أصله الزيادة فهو ضد النقص ، وشاع إطلاقه على الزيادة في الخير والكمال الديني وهو المراد هنا . ويطلق على زيادة المال فوق حاجة صاحبه ، وليس مرادا هنا ; لأن عطف ( والسعة ) عليه يبعد ذلك . والمعني من أولي الفضل ابتداء أبو بكر الصديق .
والسعة : الغنى . والأوصاف في قوله : أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله مقتضية المواساة بانفرادها ، فالحلف على ترك مواساة واحد منهم سد لباب عظيم من المعروف وناهيك بمن جمع الأوصاف كلها مثل مسطح الذي نزلت الآية بسببه .
والاستفهام في قوله ( ألا تحبون ) إنكاري مستعمل في التحضيض على السعي فيما به المغفرة ، وذلك العفو والصفح في قوله : وليعفوا وليصفحوا . وفيه إشعار بأنه قد تعارض عن أبي بكر سبب [ ص: 190 ] المعروف وسبب البر في اليمين وتجهم الحنث ، وأنه أخذ بجانب البر في يمينه ، وترك جانب ما يفوته من ثواب الإنفاق ومواساة القرابة وصلة الرحم ، وكأنه قدم جانب التأثم على جانب طلب الثواب ، فنبهه الله على أنه يأخذ بترجيح جانب المعروف ; لأن لليمين مخرجا وهو الكفارة .
وهذا يؤذن بأن كانت مشروعة من قبل هذه القصة ، ولكنهم كانوا يهابون الإقدام على الحنث كما جاء في خبر كفارة اليمين عائشة : أن لا تكلم عبد الله بن الزبير حين بلغها قوله : إنه يحجر عليها لكثرة إنفاقها المال . وهو في صحيح في كتاب الأدب باب الهجران . البخاري
وعطف والله غفور رحيم على جملة ألا تحبون أن يغفر الله لكم زيادة في الترغيب في العفو والصفح وتطمينا لنفس أبي بكر في حنثه وتنبيها على الأمر بالتخلق بصفات الله تعالى .