بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب والذين كفروا أعمالهم كسراب
لما جرى ذكر أعمال المتقين من المؤمنين وجزائهم عليها بقوله تعالى : يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال إلى قوله : ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب أعقب ذلك بضده من حال وما هي بمغنية عنهم شيئا على عادة القرآن في إرداف البشارة بالنذارة ، وعكس ذلك كقوله : أعمال الكافرين التي يحسبونها قربات عند الله تعالى ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات إلخ فعطف حال أعمال الكافرين عطف القصة على القصة . ولعل المشركين كانوا إذا سمعوا ما وعد الله به المؤمنين من الجزاء على الأعمال الصالحة [ ص: 251 ] يقولون : ونحن نعمر المسجد الحرام ونطوف ونطعم المسكين ونسقي الحاج ونقري الضيف ، كما أشار إليه قوله تعالى : أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر يعدون أعمالا من أفعال الخيرات فكانت هذه الآيات إبطالا لحسابهم ، قال تعالى : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا وقد أعلمناك أن هذه السورة نزل أكثرها عقب الهجرة وذلك حين كان المشركون يتعقبون أخبار المسلمين في مهاجرهم ويتحسسون ما نزل من القرآن .
والجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا . ( والذين كفروا ) مبتدأ وخبره جملة ( أعمالهم كسراب ) إلخ . وجعل المسند إليه ما يدل على ذوات الكافرين ثم بني عليه مسند إليه آخر وهو ( أعمالهم ) . ولم يجعل المسند إليه أعمال الذين كفروا من أول وهلة لما في الافتتاح بذكر الذين كفروا من التشويق إلى معرفة ما سيذكر من شئونهم ليتقرر في النفس كمال التقرر وليظهر أن للذين كفروا حظا في التمثيل بحيث لا يكون المشبه أعمالهم خاصة .
وفي الإتيان بالموصول وصلته إيماء إلى وجه بناء الخبر . وهو أنه من جزاء كفرهم بالله . على أنه قد يكون عنوان الذين كفروا قد غلب على المشركين من أهل مكة فيكون افتتاح الكلام بهذا الوصف إشارة إلى أنه إبطال لشيء اعتقده الذين كفروا . فتشبيه الكافرين وأعمالهم تشبيه تمثيلي : شبهت حالة كدهم في الأعمال وحرصهم على الاستكثار منها مع ظنهم أنها تقربهم إلى رضا الله ثم تبين أنها لا تجديهم بل يلقون العذاب في وقت ظنهم الفوز; شبه ذلك بحالة ظمآن يرى السراب فيحسبه ماء ، فيسعى إليه فإذا بلغ المسافة التي خال أنها موقع الماء لم يجد ماء ووجد هنالك غريما يأسره ويحاسبه على ما سلف من أعماله السيئة .
واعلم أن الحالة المشبهة مركبة من محسوس ومعقول والحالة المشبه بها حالة محسوسة . أي داخلة تحت إدراك الحواس .
[ ص: 252 ] والسراب : رطوبة كثيفة تصعد على الأرض ولا تعلو في الجو تنشأ من بين رطوبة الأرض وحرارة الجو في المناطق الحارة الرملية فيلوح من بعيد كأنه ماء . وسبب حدوث السراب اشتداد حرارة الرمال في أرض مستوية فتشتد حرارة طبقة الهواء الملاصقة للرمل وتحر الطبقة الهوائية التي فوقها حرا أقل من حرارة الطبقة الملاصقة ، وهكذا تتناقص الحرارة في كل طبقة من الهواء عن حرارة الطبقة التي دونها ، وبذلك تزداد كثافة الهواء بزيادة الارتفاع عن سطح الأرض . وبحرارة الطبقة السفلى التي تلي الأرض تحدث فيها حركات تموجية فيصعد جزء منها إلى ما فوقها من الطبقات وهكذا . . فتكون كل طبقة أكثف من التي تحتها . فإذا انعكس على تلك الأشعة نور الجو من قرب طلوع الشمس إلى بقية النهار تكيفت تلك الأشعة بلون الماء . ففي أول ظهور النور يلوح السراب كأنه الماء الراكد أو البحر وكلما اشتد الضياء ظهر في السراب ترقرق كأنه ماء جار .
ثم قد يطلق السراب على هذا الهواء المتموج في سائر النهار من الغدوة إلى العصر . وقد يخص ما بين أول النهار إلى الضحى باسم الآل ثم سراب . وعلى هذا قول أكثر أهل اللغة والعرب يتسامحون في إطلاق أحد اللفظين مكان الآخر . وقد شاهدته في شهر نوفمبر فيما بين الفجر وطلوع الشمس بمقربة من موضع يقال له : أم العرائس من جهات توزر ، وأنا في قطار السكة الحديدية فخلت أول النظر أنا أشرفنا على بحر .
وقوله ( بقيعة ) الباء بمعنى في و ( قيعة ) أرض ، والجار والمجرور وصف ( لسراب ) وهو وصف كاشف ; لأن السراب لا يتكون إلا في قيعة . وهذا كقولهم في المثل للذليل : ( هو فقع في قرقر ) ، فإن الفقع لا ينبت إلا في قرقر . والقيعة : الأرض المنبسطة ليس فيها ربى ويرادفها القاعة . وقيل : قيعة جمع قاع مثل جيرة جمع جار ، ولعله غلب لفظ الجمع فيه حتى ساوى المفرد .
[ ص: 253 ] وقوله : يحسبه الظمآن ماء يفيد وجه الشبه ويتضمن أحد أركان التمثيل وهو الرجل العطشان وهو مشابه الكافر صاحب العمل .
و ( حتى ) ابتدائية فهي بمعنى فاء التفريع . ومجيء الظمآن إلى السراب يحصل بوصوله إلى مسافة كان يقدرها مبدأ الماء بحسب مرأى تخيله ، كأن يحدده بشجرة أو صخرة . فلما بلغ إلى حيث توهم وجود الماء لم يجد الماء فتحقق أن ما لاح له سراب . فهذا معنى قوله : حتى إذا جاءه ، أي إذا جاء الموضع الذي تخيل أنه إن وصل إليه يجد ماء . وإلا فإن السراب لا يزال يلوح له بعد كلما تقدم السائر في سيره . فضرب ذلك مثلا لقرب زمن إفضاء الكافر إلى عمله وقت موته حين يرى مقعده أو في وقت الحشر .
وقوله : ( لم يجده شيئا ) أي لم يجد ما كان يخيل إلى عينه أنه ماء لم يجده شيئا .
والشيء : هو الموجود وجودا معلوما للناس ، والسراب موجود ومرئي ، فقوله : ( شيئا ) أي شيئا من ماء بقرينة المقام . وهذا التمثيل كقوله تعالى : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا .
و ( إذا ) هنا ظرف مجرد عن الشرطية . والمعنى : زمن مجيئه إلى السراب ، أي وصوله إلى الموضع .
وقوله : ووجد الله عنده هو من تمام التمثيل ، أي لم يجد الماء ووجد في مظنة الماء الذي ينتفع به وجد من إن أخذ بناصيته لم يفلته ، أي هو عند ظنه الفوز بمطلوبه فاجأه من يأخذه للعذاب ، وهو معنى قوله : فوفاه حسابه أي أعطاه جزاء كفره وافيا . فمعنى ( فوفاه ) أنه لا تخفيف فيه ، فهو قد تعب ونصب في العمل فلم يجد جزاء إلا العذاب بمنزلة من ورد الماء للسقي فوجد من له عنده ترة فأخذه .
[ ص: 254 ] وجملة والله سريع الحساب تذييل . والسريع : ضد البطيء . والمعنى : أنه لا يماطل الحساب ولا يؤخره عند حلول مقتضيه ، فهو عام في حساب الخير والشر ولذلك كان تذييلا .
واعلم أن هذا التمثيل العجيب صالح لتفريق أجزائه في التشبيه بأن ينحل إلى تشبيهات واستعارات . في أن لها صورة الماء وليست بماء . والكافر يشبه الظمآن في الاحتياج إلى الانتفاع بعمله ، ففي قوله : فأعمال الكافرين شبيهة بالسراب يحسبه الظمآن استعارة مصرحة ، وخيبة الكافر عند الحساب تشبه خيبة الظمآن عند مجيئه السراب ففيه استعارة مصرحة ، ومفاجأة الكافر بالأخذ والعتل من جند الله أو بتكوين الله تشبه مفاجأة من حسب أنه يبلغ الماء للشراب فبلغ إلى حيث تحقق أنه لا ماء فوجد عند الموضع الذي بلغه من يترصد له لأخذه أو أسره . فهنا استعارة مكنية إذ شبه أمر الله أو ملائكته بالعدو ، ورمز إلى العدو بقوله : فوفاه حسابه . وتعدية فعل ( وجد ) إلى اسم الجلالة على حذف مضاف هي تعدية المجاز العقلي .