[ ص: 268 ] عطف جملة ( ويقولون ) على جملة والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم لما تتضمنه جملة ( يهدي من يشاء ) من هداية بعض الناس وحرمان بعضهم من الهداية كما هو مقتضى ( من يشاء ) . وهذا تخلص إلى ذكر بعض ممن لم يشأ الله هدايتهم وهم الذين أبطنوا الكفر وأظهروا الإسلام وهم . فبعد أن ذكرت دلائل انفراد الله تعالى بالإلهية وذكر الكفار الصرحاء الذين لم يهتدوا بها في قوله : أهل النفاق والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة الآيات تهيأ المقام لذكر صنف آخر من الكافرين الذين لم يهتدوا بآيات الله وأظهروا أنهم اهتدوا بها .
وضمير الجمع عائد إلى معروفين عند السامعين وهم المنافقون ; لأن ما ذكر بعده هو من أحوالهم ، وعود الضمير إلى شيء غير مذكور كثير في القرآن ، على أنهم قد تقدم ما يشير إليهم بطريق التعريض في قوله : رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة .
وقد أشارت الآية إلى المنافقين عامة ، ثم إلى فريق منهم أظهروا عدم الرضى بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم ، فكلا الفريقين موسوم بالنفاق ، ولكن أحدهما استمر على النفاق والمواربة ، وفريقا لم يلبثوا أن أظهروا الرجوع إلى الكفر بمعصية الرسول علنا .
ففي قوله : ( ويقولون ) إيماء إلى أن حظهم من الإيمان مجرد القول دون الاعتقاد كما قال تعالى : قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم .
وعبر بالمضارع لإفادة تجدد ذلك منهم واستمرارهم عليه ; لما فيه من تكرر الكذب ونحوه من خصال النفاق التي بينتها في سورة البقرة . ومفعول ( أطعنا ) محذوف دل عليه ما قبله ، أي : أطعنا الله والرسول .
والإشارة في قوله : ( وما أولئك ) إلى ضمير ( يقولون ) ، أي يقولون آمنا وهم كاذبون في قولهم . وإنما يظهر كفرهم عندما تحل بهم النوازل [ ص: 269 ] والخصومات فلا يطمئنون بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولا يصح جعله إشارة إلى ( فريق ) من قوله : إذا فريق منهم معرضون ; لأن إعراضهم كاف في الدلالة على عدم الإيمان .
فالضمير في قوله ( وإذا دعوا ) عائد إلى معاد ضمير ( يقولون ) . وإسناد فعل ( دعوا ) إلى جميعهم وإن كان المعرضون فريقا منهم لا جميعهم للإشارة إلى أنهم سواء في التهيؤ إلى الإعراض ، ولكنهم لا يظهرونه إلا عندما تحل بهم النوازل فالمعرضون هم الذين حلت بهم الخصومات .
وقد شملت الآية نفرا من المنافقين كانوا حلت بهم خصومات ، فأبوا حكم النبيء صلى الله عليه وسلم قبل أن يحكم عليهم أو بعدما حكم عليهم فلم يرضهم حكمه ، فروى المفسرون أن بشرا أحد الأوس أو الخزرج تخاصم إلى النبيء صلى الله عليه وسلم مع يهودي فلما حكم النبيء لليهودي ، لم يرض بشر بحكمه ودعاه إلى الحكم عند كعب بن الأشرف اليهودي فأبى اليهودي وتساوقا إلى فقصا عليه القضية ، فلما علم عمر بن الخطاب عمر أن بشرا لم يرض بحكم النبيء قال لهما : مكانكما حتى آتيكما . ودخل بيته فأخرج سيفه وضرب بشرا بالسيف فقتله . فروي أن النبيء صلى الله عليه وسلم لقب عمر يومئذ ; لأنه فرق بين الحق والباطل الفاروق ، أي فرق بينهما بالمشاهدة . وقيل : إن أحد المنافقين اسمه المغيرة بن وائل من الأوس من بني أمية بن زيد الأوسي تخاصم مع في أرض اقتسماها ، ثم كره علي بن أبي طالب أمية القسم الذي أخذه فرام نقض القسمة وأبى علي نقضها ، ودعاه إلى الحكومة لدى النبيء صلى الله عليه وسلم . فقال المغيرة : أما محمد فلست آتيه ; لأنه يبغضني وأنا أخاف أن يحيف علي ، فنزلت هذه الآية . وتقدم ذلك عند قوله تعالى : ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك الآية في سورة النساء .
ومن سماجة الأخبار ما نقله الطبرسي الشيعي في تفسيره المسمى مجمع البيان عن البلخي أنه كانت بين علي وعثمان منازعة في أرض اشتراها [ ص: 270 ] من علي فخرجت فيها أحجار وأراد ردها بالعيب ، فلم يأخذها فقال : بيني وبينك رسول الله . فقال له : إن حاكمته إلى ابن عمه يحكم له فلا تحاكمه إليه الحكم بن أبي العاص . فنزلت الآيات . وهذا لم يروه أحد من ثقات المفسرين ولا أشك في أنه مما اعتيد إلصاقه ببني أمية من تلقاء المشوهين لدولتهم تطلعا للفتنة . أسلم يوم الفتح وسكن والحكم بن أبي العاص المدينة ، وهل يظن به أن يقول مثل هذه المقالة بين مسلمين .
وإنما جعل الدعاء إلى الله ورسوله كليهما مع أنهم دعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ; لأن حكم الرسول حكم الله ; لأنه لا يحكم إلا عن وحي . ولهذا الاعتبار أفرد الضمير في قوله : ( ليحكم ) العائد إلى أقرب مذكور ولم يقل : ليحكما .
وقوله : وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه أي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومعنى ( وإن يكن لهم الحق ) أنه يكون في ظن صاحب الحق ويقينه أنه على الحق . ومفهومه أن من لم يكن له الحق منهم وهو العالم بأنه مبطل لا يأتي إذا دعي إلى الرسول عليه الصلاة ، فعلم منه أن الفريق المعرضين هم المبطلون . وكذلك شأن كل من هو على الحق أنه لا يأبى من القضاء العادل ، وشأن المبطل أن يأبى العدل ; لأن العدل لا يلائم حبه الاعتداء على حقوق الناس ، فسبب إعراض المعرضين علمهم بأن في جانبهم الباطل وهم قد تحققوا أن الرسول لا يحكم إلا بصراح الحق .
وهذا وجه موقع جملة ( أفي قلوبهم مرض ) إلى آخرها .
ووقع حرف ( إذا ) المفاجأة في جواب ( إذا ) الشرطية لإفادة مبادرتهم بالإعراض دون تريث ; لأنهم قد أيقنوا من قبل بعدالة الرسول وأيقنوا بأن الباطل في جانبهم فلم يترددوا في الإعراض .
والإذعان : الانقياد والطاعة .
ولما كان هذا شأنا عجيبا استؤنف عقبه بالجملة ذات الاستفهامات [ ص: 271 ] المستعملة في التنبيه على أخلاقهم ولفت الأذهان إلى ما انطووا عليه والداعي إلى ذلك أنها أحوال خفية ; لأنهم كانوا يظهرون خلافها .
وأتبع بعض الاستفهامات بعضا بحرف ( أم ) المنقطعة التي هي هنا للإضراب الانتقالي كشأنها إذا عطفت الجمل الاستفهامية فإنها إذا عطفت الجمل لم تكن لطلب التعيين كما هي في عطف المفردات ; لأن المتعاطفات بها حينئذ ليست مما يطلب تعيين بعضه دون بعض ، وأما معنى الاستفهام فملازم لها ; لأنه يقدر بعد ( أم ) .
والانتقال هنا تدرج في عد أخلاقهم . فالمعنى أنه سأل سائل عن اتصافهم بخلق من هذه المذكورات علم المسئول أنهم متصفون به ، فكان الاستفهام المكرر ثلاث مرات مستعملا في التنبيه مجازا مرسلا ، ومنه قوله تعالى : ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها في سورة الأعراف .
والقلوب : العقول . والمرض مستعار للفساد أو للكفر قال تعالى : في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا أو للنفاق .
وأتي في جانب هذا الاستفهام بالجملة الاسمية للدلالة على ثبات المرض في قلوبهم وتأصله فيها بحيث لم يدخل الإيمان في قلوبهم .
والارتياب : الشك . والمراد : ارتابوا في حقية الإسلام ، أي حدث لهم ارتياب بعد أن آمنوا إيمانا غير راسخ .
وأتي في جانبه بالجملة الفعلية المفيدة للحدوث والتجدد ، أي حدث لهم ارتياب بعد أن اعتقدوا الإيمان اعتقادا مزلزلا . وهذا يشير إلى أنهم فريقان : فريق لم يؤمنوا ولكنهم أظهروا الإيمان وكتموا كفرهم ، وفريق آمنوا إيمانا ضعيفا ثم ظهر كفرهم بالإعراض .
والحيف : الظلم والجور في الحكومة . وجيء في جانبه بالفعلين المضارعين للإشارة إلى أنه خوف في الحال من الحيف في المستقبل كما [ ص: 272 ] يقتضيه دخول ( أن ) ، وهي حرف الاستقبال ، على فعل ( يحيف ) . فهم خافوا من وقوع الحيف بعد نشر الخصومة فمن ثمة أعرضوا عن التحاكم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم .
وأسند الحيف إلى الله ورسوله بمعنى أن يكون ما شرعه الإسلام حيفا لا يظهر الحقوق . وهذا كناية عن كونهم يعتقدون أنه غير منزل من الله ، وأن يكون حكم الرسول بغير ما أمر الله ، فهم يطعنون في الحكم وفي الحاكم وما ذلك إلا لأنهم لا يؤمنون بأن شريعة الإسلام منزلة من الله ولا يؤمنون بأن محمدا عليه الصلاة والسلام مرسل من عند الله ، فالكلام كناية عن إنكارهم أن تكون الشريعة إلهية ، وأن يكون الآتي بها صادقا فيما أتى به .
واعلم أن المنافقين اتصفوا بهذه الأمور الثلاثة وكلها ناشئة عن عدم تصديقهم الرسول سواء في ذلك من حلت به قضية ومن لم تحل .
وفيما فسرنا به قوله تعالى : أفي قلوبهم مرض ما يثلج صدر الناظر ويخرج به من سكوت الساكت وحيرة الحائر .
و ( بل ) للإضراب الانتقالي من الاستفهام التنبيهي إلى خبر آخر . ولم يؤت في هذا الإضراب بـ ( أم ) ; لأن ( أم ) لا بد معها من معنى الاستفهام ، وليس المراد عطف كونهم ظالمين على الاستفهام المستعمل في التنبيه بل المراد به إفادة اتصافهم بالظلم دون غيرهم ; لأنه قد اتضح حالهم فلا داعي لإيراده بصيغة استفهام التنبيه . وليست ( بل ) هنا للإبطال ; لأنه لا يستقيم إبطال جميع الأقسام المتقدمة ، فإن منها مرض قلوبهم وهو ثابت ، ولا دليل على قصد إبطال القسم الأخير خاصة ، ولا على إبطال القسمين الآخرين .
وجملة ( أولئك هم الظالمون ) مستأنفة استئنافا بيانيا ; لأن السامع بعد أن ظنت بأذنه تلك الاستفهامات الثلاثة ثم أعقبت بحرف الإضراب يترقب ماذا سيرسي عليه تحقيق حالهم فكان قوله : ( أولئك هم الظالمون ) بيانا لما يترقبه السامع .
[ ص: 273 ] والمعنى : أنهم يخافون أن يحيف الرسول عليهم ويظلمهم . وليس الرسول بالذي يظلم بل هم الظالمون . فالقصر الحاصل من تعريف الجزأين ومن ضمير الفصل حصر مؤكد ، أي هم الظالمون لا شرع الله ولا حكم رسوله .
وزاد اسم الإشارة تأكيدا للخبر فحصل فيه أربعة مؤكدات : اثنان من صيغة الحصر ; إذ ليس الحصر والتخصيص إلا تأكيدا على تأكيد ، والثالث ضمير الفصل ، والرابع اسم الإشارة .
واسم الإشارة الموضوع للتمييز استعمل هنا مجازا لتحقيق اتصافهم بالظلم ، فهم يقيسون الناس على حسب ما يقيسون أنفسهم ، فلما كانوا أهل ظلم ظنوا بمن هو أهل الإنصاف أنه ظالم كما قال أبو الطيب :
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدق ما يعتاده من توهم
ولا تعلق لهذه الآية بحكم من دعي إلى القاضي للخصومة فامتنع ; لأن الذم والتوبيخ فيها كانا على امتناع ناشئ عن كفرهم ونفاقهم .