وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق .
[ ص: 343 ] هذا رد على قولهم : ( ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ) بعد أن رد عليهم قولهم : ( أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها ) بقوله : ( تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك ) ، ولكن لما كان قولهم : ( أو يلقى إليه كنز ) حالة لم تعط للرسل في الدنيا كان رد قولهم فيها بأن الله أعطاه خيرا من ذلك في الآخرة .
وأما قولهم : ( ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ) فقد توسلوا به إلى إبطال رسالته بثبوت صفات البشر له ، فكان الرد عليهم بأن جميع الرسل كانوا متصفين بصفات البشر ، ولم يكن المشركون منكرين وجود رسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم ، فقد قالوا : ( فليأتنا بآية كما أرسل الأولون ) ، وإذا كانوا موجودين فبالضرورة كانوا يأكلون الطعام ؛ إذ هم من البشر ويمشون في أسواق المدن والبادية ؛ لأن الدعوة تكون في مجامع الناس . وقد قال موسى : ( موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى ) . وكان النبيء صلى الله عليه وسلم يدعو قريشا في مجامعهم ونواديهم ويدعو سائر العرب في عكاظ وفي أيام الموسم .
وجملة ( ليأكلون الطعام ) في موضع الحال ؛ لأن المستثنى منه عموم الأحوال . والتقدير : وما أرسلنا قبلك من المرسلين في حال إلا في حال ( إنهم ليأكلون الطعام ) . والتوكيد بـ ( إن ) واللام لتحقيق وقوع الحال تنزيلا للمشركين في تناسيهم أحوال الرسل منزلة من ينكر أن يكون الرسل السابقون يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق . ولم تقترن جملة الحال بالواو ؛ لأن وجود أداة الاستثناء كاف في الربط ولا سيما وقد تأكد الربط بحرف التوكيد فلا يزاد حرف آخر فيتوالى أربعة حروف وهي : إلا ، وإن ، واللام ، ويزاد الواو بخلاف قوله تعالى : ( وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم ) . وقوله : ( وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون ) .
وإنما أبقى الله الرسل على الحالة المعتادة للبشر فيما يرجع إلى أسباب الحياة المادية ؛ إذ لا حكمة في تغيير حالهم عن ذلك ، وإنما يغير الله حياتهم [ ص: 344 ] النفسية ؛ لأن في تغييرها إعداد نفوسهم لتلقي الفيوضات الإلهية .
ولله تعالى حفاظ على نواميس نظام الخلائق والعوالم ؛ لأنه ما خلقها عبثا فهو لا يغيرها إلا بمقدار ما تتعلق به إرادته من تأييد الرسل بالمعجزات ونحو ذلك .