لما أفضى الكلام بأفانين انتقالاته إلى التعجيب من استمرارهم على أن يعبدوا ما لا يضرهم ولا ينفعهم أعقب بما يومئ إلى استمرارهم على تكذيبهم محمدا - صلى الله عليه وسلم - في دعوى الرسالة بنسبة ما بلغه إليهم إلى الإفك ، وأنه أساطير الأولين ، وأنه سحر ، فأبطلت دعاويهم كلها بوصف النبيء بأنه مرسل من الله ، وقصره على صفتي التبشير والنذارة . وهذا الكلام الوارد في الرد عليهم جامع بين إبطال إنكارهم لرسالته وبين تأنيس الرسول - عليه الصلاة والسلام - بأنه ليس بمضل ولكنه مبشر ونذير . وفيه تعريض بأن لا يحزن لتكذيبهم إياه .
ثم أمره بأن يخاطبهم بأنه غير طامع من دعوتهم في أن يعتز باتباعهم إياه [ ص: 58 ] حتى يحسبوا أنهم إن أعرضوا عنه فقد بلغوا من النكاية به أملهم ، بل ما عليه إلا التبليغ بالتبشير والنذارة لفائدتهم لا يريد منهم الجزاء على عمله ذلك .
والأجر : العوض على العمل ولو بعمل آخر يقصد به الجزاء .
والاستثناء تأكيد لنفي أن يكون يسألهم أجرا ؛ لأنه استثناء من أحوال عامة محذوف ما يدل عليها لقصد التعميم ، والاستثناء معيار العموم ، فلذلك كثر في كلام العرب أن يجعل تأكيد الفعل في صورة الاستثناء ، ويسمى تأكيد المدح بما يشبه الذم ، وبعبارة أتقن تأكيد الشيء بما يشبه ضده وهو مرتبتان : منه ما هو تأكيد محض ، وهو ما كان المستثنى فيه منقطعا عن المستثنى منه أصلا كقول النابغة :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
فإن فلول سيوفهم ليس من جنس العيب فيهم بحال ؛ ومنه مرتبة ما هو تأكيد في الجملة وهو ما المستثنى فيه ليس من جنس المستثنى منه لكنه قريب منه بالمشابهة لم يطلق عليه اسم المشبه به بما تضمنه الاستثناء كما في قوله : ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) ؛ ألا ترى أنه نفى أن يكون يسألهم أجرا على الإطلاق في قوله : ( قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ) . فقوله تعالى : ( إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا ) من قبيل المرتبة الثانية ؛ لأن الكلام على حذف مضاف يناسب أجرا ؛ إذ التقدير : إلا عمل من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا ، وذلك هو اتباع دين الإسلام . ولما كان هذا إجابة لدعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أشبه الأجر على تلك الدعوة فكان نظير قوله ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) . وقد يسمون مثل هذا الاستثناء الاستثناء المنقطع ويقدرونه كالاستدراك .
والسبيل : الطريق . واتخاذ السبيل تقدم آنفا في قوله : ( يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ) . وجعل السبيل هنا إلى الله ، لأنه وسيلة إلى إجابته فيما دعاهم إليه ، وهذا كقوله تعالى : ( فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا ) .
وذكر وصف الرب دون الاسم العلم للإشارة إلى استحقاقه السير إليه ؛ لأن العبد محقوق بأن يرجع إلى ربه وإلا كان آبقا .