هذا قسم آخر من صفات عباد الرحمن ، وهو قسم التخلي عن المفاسد التي كانت ملازمة لقومهم من المشركين ؛ فتنزه عباد الرحمن عنها بسبب إيمانهم ، وذكر هنا تنزههم عن الشرك وقتل النفس والزنا ، وهذه القبائح الثلاث كانت غالبة على المشركين .
ووصف النفس بـ ( التي حرم الله ) بيانا لحرمة النفس التي تقررت من عهد آدم فيما حكى الله من محاورة ولد آدم بقوله : ( قال لأقتلنك ) الآيات ، فتقرر من أقدم أزمان البشر ولم يجهله أحد من ذرية آدم ، فذلك معنى وصف النفس بالموصول في قوله : ( تحريم قتل النفس التي حرم الله ) . وكان قتل النفس متفشيا في العرب بالعداوات والغارات وبالوأد في كثير من القبائل بناتهم ، وبالقتل لفرط الغيرة ، كما قال امرؤ القيس :
تجاوزت أحراسا إليها ومعشرا علي حراصا لو يسرون مقتلي
وقال عنترة :علقتها عرضا وأقتل قومهـا زعما لعمر أبيك ليس بمزعم
وقد جمع التخلي عن هذه الجرائم الثلاث في صلة موصول واحد ولم يكرر اسم الموصول كما كرر في ذكر خصال تحليهم ، للإشارة إلى أنهم لما أقلعوا عن الشرك ولم يدعوا مع الله إلها آخر فقد أقلعوا عن أشد القبائح لصوقا بالشرك وذلك قتل النفس والزنى . فجعل ذلك شبيه خصلة واحدة ، وجعل في صلة موصول واحد .
[ ص: 74 ] وقد يكون تكرير ( لا ) مجزئا عن إعادة اسم الموصول وكافيا في الدلالة على أن كل خصلة من هذه الخصال موجبة لمضاعفة العذاب ، ويؤيده ما في صحيح مسلم من حديث قال : عبد الله بن مسعود والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ) إلى أثاما ، وفي رواية قلت : يا رسول الله أي الذنب أكبر ؟ قال : أن تدعو لله ندا وهو خلقك . قلت : ثم أي ؟ قال : أن تقتل ولدك خيفة أن يطعم معك . قلت : ثم أي ؟ قال : أن تزاني حليلة جارك . فأنزل الله تعالى تصديقها ( ابن عطية ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية .
وقد علمت أن هذه الآيات الثلاث إلى قوله : ( غفورا رحيما ) قيل : نزلت بالمدينة .
والإشارة بـ ( ذلك ) إلى ما ذكر من الكبائر على تأويله بالمذكور كما تقدم في نظيره آنفا ، والمتبادر من الإشارة أنها إلى المجموع ، أي : من يفعل مجموع الثلاث ويعلم أن جزاء من يفعل بعضها ويترك بعضا عدا الإشراك دون جزاء من يفعل جميعها ، وأن البعض أيضا مراتب ، وليس المراد من يفعل كل واحدة مما ذكر يلق أثاما ؛ لأن لقي الآثام بين هنا بمضاعفة العذاب والخلود فيه . وقد نهضت أدلة متظافرة من الكتاب والسنة على أن ما عدا الكفر من المعاصي لا يوجب الخلود ، مما يقتضي تأويل ظواهر الآية .
ويجوز أن تكون مضاعفة العذاب مستعملة في معنى قوته ، أي : يعذب عذابا شديدا وليست لتكرير عذاب مقدر .
والأثام بفتح الهمزة جزاء الإثم على زنة الوبال والنكال ، وهو أشد من الإثم ، أي يجازى على ذلك سوءا ؛ لأنها آثام .
وجملة ( يضاعف له العذاب ) بدل اشتمال من ( يلق أثاما ) ، وإبدال الفعل من الفعل إبدال جملة ، فإن كان في الجملة فعل قابل للإعراب ظهر إعراب المحل في ذلك الفعل ؛ لأنه عماد الجملة . وجعل الجزاء مضاعفة العذاب والخلود .
فأما مضاعفة العذاب فهي أن يعذب على كل جرم مما ذكر عذابا مناسبا ، ولا يكتفى بالعذاب الأكبر عن أكبر الجرائم وهو الشرك ، تنبيها على أن الشرك لا [ ص: 75 ] ينجي صاحبه من تبعة ما يقترفه من الجرائم والمفاسد ، وذلك لأن دعوة الإسلام للناس جاءت بالإقلاع عن الشرك وعن المفاسد كلها . وهذا معنى قول من قال من العلماء بأن يعنون خطاب المؤاخذة على ما نهوا عن ارتكابه ، وليس المراد أنهم يطلب منهم العمل إذ لا تقبل منهم الصالحات بدون الإيمان ، ولذلك رام بعض أهل الأصول تخصيص الخلاف بخطاب التكليف لا الإتلاف والجنايات وخطاب الوضع كله . الكفار مخاطبون بفروع الشريعة
وأما الخلود في العذاب فقد اقتضاه الإشراك .
وقوله : ( مهانا ) حال قصد منها تشنيع حالهم في الآخرة ، أي : يعذب ويهان إهانة زائدة على إهانة التعذيب بأن يشتم ويحقر .
وقرأ الجمهور ( يضاعف ) بألف بعد الضاد وبجزم الفعل . وقرأه ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو جعفر ، ويعقوب ( يضعف ) بتشديد العين وبالجزم . وقرأه ابن عامر ، وأبو بكر بن عاصم ( يضاعف ) بألف بعد الضاد وبرفع الفعل على أنه استئناف بياني .