فأخرجناهم من جنات وعيون   وكنوز ومقام كريم  كذلك وأورثناها بني إسرائيل  فأتبعوهم مشرقين    . 
إن جريت على ما فسر به المفسرون قوله : فأرسل فرعون في المدائن حاشرين  لزمك أن تجعل الفاء في قوله : ( فأخرجناهم ) لتفريع الخروج على إرسال الحاشرين ، أي : ابتدأ بإرسال الحاشرين وأعقب ذلك بخروجه ، فالتعقيب الذي دلت عليه الفاء بحسب ما يناسب المدة التي بين إرسال الحاشرين وبين وصول الأنبياء من أطراف المملكة بتعيين طريق بني إسرائيل    ; إذ لا يخرج فرعون  بجنده على وجهه ، غير عالم بطريقهم . وضمير النصب عائد إلى فرعون  ومن معه مفهوما من قوله : ( إنكم متبعون ) . 
وإن جريت على ما فسرنا به قوله تعالى : ( فأرسل فرعون    ) ولا أخالك إلا منشرح الصدر لاختيار ذلك ، فلتجعل الفاء في ( فأخرجناهم ) تفريعا على جملة ( إنكم متبعون    ) . والتقدير : فأسرى موسى  ببني إسرائيل  فأخرجنا فرعون  وجنده من بلادهم في طلب بني إسرائيل  فاتبعوا بني إسرائيل    . 
وضمير ( أخرجناهم ) على كل تقدير عائد إلى ما يفهم من المقام ، أي : أخرجنا فرعون  وجنده . والجنات : جنات النخيل التي كانت على ضفاف النيل . والعيون : منابع تحفر على خلجان النيل . والكنوز : الأموال المدخرة . 
والمقام : أصله محل القيام أو مصدر قام . والمعنى على الأول : مساكن كريمة ، وعلى الثاني : قيامهم في مجتمعهم ، والكريم : النفيس في نوعه . وذلك ما   [ ص: 133 ] كانوا عليه من الأمن والثروة والرفاهية ، كل ذلك تركه فرعون  وجنوده الذين خرجوا منه لمطاردة بني إسرائيل    ; لأنهم هلكوا فلم يرجعوا إلى شيء مما تركوا . 
( كذلك ) تقدم الكلام على نظيره عند قوله تعالى : كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا  في سورة الكهف ، فهو بمنزلة الاعتراض . 
وجملة وأورثناها بني إسرائيل  معترضة أيضا والواو اعتراضية ، وليست عطفا لأجزاء القصة لما ستعلمه . والإيراث : جعل أحد وارثا . وأصله إعطاء مال الميت ، ويطلق على إعطاء ما كان ملكا لغير المعطى ( بفتح الطاء ) كما قال تعالى : وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها  ، أي : أورثنا بني إسرائيل  أرض الشام  ، وقال : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا    . 
والمعنى : أن الله أرزأ أعداء موسى  ما كان لهم من نعيم ؛ إذ أهلكهم وأعطى بني إسرائيل  خيرات مثلها لم تكن لهم  ، وليس المراد أنه أعطى بني إسرائيل  ما كان بيد فرعون  وقومه من الجنات والعيون والكنوز ; لأن بني إسرائيل  فارقوا أرض مصر  حينئذ وما رجعوا إليها كما يدل عليه قوله في سورة الدخان : كذلك وأورثناها قوما آخرين    . ولا صحة لما يقوله بعض أهل قصص القرآن من أن بني إسرائيل  رجعوا فملكوا مصر  بعد ذلك ، فإن بني إسرائيل  لم يملكوا مصر  بعد خروجهم منها سائر الدهر ، فلا محيص من صرف الآية عن ظاهرها إلى تأويل يدل عليه التاريخ ويدل عليه ما في سورة الدخان . 
فضمير ( وأورثناها    ) هنا عائد للأشياء المعدودة باعتبار أنها أسماء أجناس ، أي : أورثنا بني إسرائيل  جنات وعيونا وكنوزا ، فعود الضمير هنا إلى لفظ مستعمل في الجنس وهو قريب من الاستخدام وأقوى منه ، أي : أعطيناهم أشياء ما كانت لهم من قبل وكانت للكنعانيين  ، فسلط الله عليهم بني إسرائيل  فغلبوهم على أرض فلسطين  والشام    . وقد يعود الضمير على اللفظ دون المعنى كما في قولهم : عندي درهم ونصفه ، وقوله تعالى : إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد  ، إذ ليس المراد أن المرء الذي هلك يرث أخته التي لها نصف ما ترك بل المراد : والمرء يرث أختا له إن لم يكن لها ولد ، ويجوز أن   [ ص: 134 ] يكون نصب الضمير لفعل ( أورثنا ) على معنى التشبيه البليغ ، أي : أورثنا أمثالها . وقيل : ضمير ( أورثناها ) عائد إلى خصوص الكنوز ; لأن بني إسرائيل  استعاروا ليلة خروجهم من جيرانهم المصريين مصوغهم من ذهب وفضة وخرجوا به كما تقدم في سورة طه . 
ويجوز عندي وجه آخر وهو أن تكون جملة ( فأخرجناهم من جنات    ) إلى قوله : ( وأورثناها    ) حكاية لكلام من الله معترض بين كلام فرعون    . وضمير ( فأخرجناهم    ) عائد إلى قوم فرعون  المفهوم من قوله : ( في المدائن    ) ، أي : فأخرجنا أهل المدائن . وحذف المفعول الثاني لفعل ( أورثناها ) . والتقدير : وأورثناها غيرهم ، ويكون قوله : ( بني إسرائيل ) بيانا لاسم الإشارة في قوله : ( إن هؤلاء    ) سلك به طريق الإجمال ثم البيان ليقع في أنفس السامعين أمكن وقع . 
وجملة ( فأتبعوهم مشرقين ) مفرعة على جملة ( فأخرجناهم ) وما بينهما اعتراض . والتقدير : فأخرجناهم فأتبعوهم . والضمير المرفوع عائد إلى ما عاد عليه ضمير النصب من قوله ( فأخرجناهم    ) ، وضمير النصب عائد إلى ( عبادي ) من قوله : ( أن اسر بعبادي    ) . 
و ( أتبعوهم ) بهمزة قطع وسكون التاء بمعنى تبع ، أي : فلحقوهم . 
و ( مشرقين    ) حال من الضمير المرفوع يجوز أن يكون معناه قاصدين جهة الشرق يقال : أشرق ، إذا دخل في أرض الشرق ، كما يقال : أنجد وأتهم وأعرق وأشأم ، ويعلم من هذا أن بني إسرائيل  توجهوا صوب الشرق وهو صوب بحر ( القلزم )  وهو البحر الأحمر  وسمي يومئذ بحر سوف  وهو شرقي مصر    . ويجوز أن يكون المعنى داخلين في وقت الشروق ، أي : أدركوهم عند شروق بعد أن قضوا ليلة أو ليالي مشيا فما بصر بعضهم ببعض إلا عند شروق الشمس بعد ليالي السفر . 
				
						
						
