استئناف ابتدائي للإعلام بتفصيل مناسك الحج ، والذي أراه أن هذه الآيات نزلت بعد نزول قوله تعالى : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا في سورة آل عمران ، فإن تلك الآية نزلت بفرض الحج إجمالا ، وهذه الآية فيها بيان أعماله ، وهو بيان مؤخر عن المبين ، وتأخير البيان إلى وقت الحاجة واقع غير مرة ، فيظهر أن هذه الآية نزلت في سنة تسع ، تهيئة لحج المسلمين مع . أبي بكر الصديق
وبين نزول هذه الآية ونزول آية وأتموا الحج والعمرة لله نحو من ثلاث سنين ، فتكون - فيما نرى - من الآيات التي أمر الرسول عليه السلام بوضعها في هذا الموضع من هذه السورة للجمع بين أعمال الحج وأعمال العمرة .
وهي وصاية بفرائض الحج وسننه ، ومما يحق أن يراعى في أدائه وذكر - ما أراد الله الوصاية به من أركانه وشعائره .
وقد ظهرت عناية الله تعالى بهذه العبادة العظيمة ؛ إذ بسط تفاصيلها وأحوالها مع تغيير ما أدخله أهل الجاهلية فيها .
ووصف الأشهر بمعلومات حوالة على ما هو معلوم للعرب من قبل ، فهي من الموروثة عندهم عن شريعة إبراهيم ، وهي من مبدأ شوال إلى نهاية أيام المحرم ، وبعضها بعض الأشهر الحرم ؛ لأنهم حرموا قبل يوم الحج شهرا وأياما وحرموا بعده بقية ذي الحجة والحرام كله ، لتكون الأشهر الحرم مدة كافية لرجوع الحجيج إلى آفاقهم ، وأما رجب فإنما حرمته مضر ؛ لأنه شهر العمرة .
فقوله : الحج أشهر معلومات أي : في أشهر ، لقوله بعده : فمن فرض فيهن الحج ولك أن تقدر : مدة الحج أشهر ، وهو كقول العرب : الرطب شهرا ربيع .
والمقصود من قوله : الحج أشهر يحتمل أن يكون تمهيدا لقوله : فلا رفث ولا فسوق تهوينا لمدة ترك الرفث والفسوق والجدال ، لصعوبة ترك ذلك على الناس ، ولذلك قللت بجمع القلة ، فهو نظير ما روى مالك في الموطأ : أن عائشة قالت يا ابن أختي إنما هي [ ص: 232 ] عشر ليال ، فإن تخلج في نفسك شيء فدعه ، تعني أكل لحم الصيد ، ويحتمل أن يكون تقريرا لما كانوا عليه في الجاهلية من تعيين أشهر الحج ، فهو نظير قوله : لعروة بن الزبير إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا الآية ، وقيل : المقصود بيان وقت الحج ، ولا أنثلج له .
والأشهر المقصودة هي شوال وذو القعدة وذو الحجة لا غير ، وإنما اختلفوا في أن منه أو التسع فقط ، أو ثلاثة عشر يوما منه ، فقال بالأول ذا الحجة كله شهر ، أو العشر الأوائل ابن مسعود وابن عمر والزهري وهو رواية وعروة بن الزبير ابن المنذر ، عن مالك ، وقال بالثاني ابن عباس والسدي وأبو حنيفة وهو رواية ابن حبيب ، عن مالك .
وقال بالثالث ، والرابع قول مذهب الشافعي مالك ذكره في المختصر غير معزو . ابن الحاجب
وإطلاق الأشهر على الشهرين وبعض الأشهر عند أصحاب القولين الثالث والرابع مخرج على إطلاق الجمع على الاثنين أو على اعتبار العرب الدخول في الشهر أو السنة كاستكماله ، كما قالوا : ابن سنتين لمن دخل في الثانية ، وثمرة هذا الخلاف تظهر فيمن أوقع بعض أعمال الحج مما يصح تأخيره كطواف الزيارة بعد عاشر ذي الحجة ، فمن يراه أوقعه في أيام الحج لم ير عليه دما ، ومن يرى خلافه يرى خلافه .
وقد اختلفوا في ، فقال الإهلال بالحج قبل دخول أشهر الحج مجاهد وعطاء والشافعي وأبو ثور : لا يجزئ ، ويكون له عمرة كمن أحرم للصلاة قبل وقتها ، وعليه : يجب عليه إعادة الإحرام من الميقات عند ابتداء أشهر الحج ، واحتج والأوزاعي بقوله تعالى : الشافعي الحج أشهر معلومات وقال أحمد : يجزئ ولكنه مكروه ، وقال مالك وأبو حنيفة والنخعي : يجوز الإحرام في جميع السنة بالحج والعمرة إلا أن مالكا كره العمرة في بقية ذي الحجة ؛ لأن كان ينهى عن ذلك ويضرب فاعله بالدرة ، ودليل عمر بن الخطاب مالك في هذا ما مضى من السنة ، واحتج النخعي بقوله تعالى : يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج إذ جعل جميع الأهلة مواقيت للحج ولم يفصل ، وهذا احتجاج ضعيف ؛ إذ ليس في الآية تعميم جميع الأهلة لتوقيت الحج بل مساق الآية أن جميع الأهلة صالحة للتوقيت إجمالا ، مع التوزيع في التفصيل ، فيوقت كل عمل بما يقارنه من ظهور الأهلة على ما تبينه أدلة أخرى من الكتاب والسنة .
[ ص: 233 ] ولاحتمال الآية عدة محامل في وجه ذكر أشهر الحج لا أرى للأئمة حجة فيها لتوقيت الحج .
وقوله تعالى : فمن فرض فيهن الحج تفريع على هاته المقدمة لبيان أن الحج يقع فيها ، وبيان أهم أحكامه .
ومعنى ( فرض ) نوى وعزم ، ، ويشترط في النية عند فنية الحج هي العزم عليه وهو الإحرام مالك وأبي حنيفة مقارنتها لقول من أقوال الحج وهو التلبية ، أو عمل من أعماله كسوق الهدي ، وعند يدخل الحج بنية ، ولو لم يصاحب قولا أو عملا وهو أرجح ؛ لأن النية في العبادات لم يشترط فيها مقارنتها لجزء من أعمال العبادة ، ولا خلاف أن السنة مقارنة الإهلال للاغتسال والتلبية واستواء الراحلة براكبها . الشافعي
وضمير ( فيهن ) للأشهر ؛ لأنه جمع لغير عاقل فيجري على التأنيث .
فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج جواب " من " الشرطية ، والرابط بين جملة الشرط والجواب ما في معنى وقوله : فلا رفث من ضمير يعود على ( من ) ؛ لأن التقدير فلا يرفث .
وقد نفى الرفث والفسوق والجدال نفي الجنس مبالغة في النهي عنها وإبعادها عن الحاج ، حتى جعلت كأنها قد نهى الحاج عنها فانتهى ، فانتفت أجناسها ، ونظير هذا كثير في القرآن كقوله تعالى : والمطلقات يتربصن وهو من قبيل التمثيل بأن شبهت حالة المأمور وقت الأمر بالحالة الحاصلة بعد امتثاله ، فكأنه امتثل وفعل المأمور به ، فصار بحيث يخبر عنه بأنه فعل كما قرره في الكشاف في قوله : والمطلقات يتربصن ، فأطلق المركب الدال على الهيئة المشبه بها على الهيئة المشبهة .
وقرأ الجمهور بفتح أواخر الكلمات الثلاث المنفية بـ " لا " ، على اعتبار ( لا ) نافية للجنس نصا ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو برفع " رفث " و " فسوق " على أن ( لا ) أخت " ليس " نافية للجنس غير نص ، وقرأ ولا جدال بفتح اللام على اعتبار ( لا ) نافية للجنس نصا ، وعلى أنه عطف جملة على جملة ، فروي عن أبي عمرو أنه قال : الرفع بمعنى : لا يكون رفث ولا فسوق ، يعني أن خبر ( لا ) محذوف ، وأن المصدرين نائبان عن فعليهما ، وأنهما رفعا لقصد الدلالة على الثبات ، مثل رفع ( الحمد لله ) وانتهى الكلام ثم ابتدأ النفي فقال : ولا جدال في الحج على أن في الحج خبر ( لا ) ، والكلام على القراءتين خبر مستعمل في النهي .
[ ص: 234 ] والرفث : اللغو من الكلام والفحش منه ، قاله أبو عبيدة واحتج بقول العجاج :
ورب أسراب حجيج كظم عن اللغا ورفث التكلم
وفعله كنصر وفرح وكرم ، والمراد به هنا الكناية عن قربان النساء .
وأحسب أن الكناية بهذا اللفظ دون غيره لقصد جمع المعنيين ؛ الصريح والكناية ، وكانوا في الجاهلية يتوقون ذلك ، قال النابغة :
حياك ربي فإنا لا يحل لنا لهو النساء وإن الدين قد عزما
وهذا خبر مراد به مبالغة النهي اقتضى أن حرام ، وأنه مفسد للحج ، وقد بينت السنة ذلك بصراحة ، فالدخول في الإحرام يمنع من الجماع إلى الإحلال بطواف الإفاضة ، وذلك جميع وقت الإحرام ، فإن حصل نسيان فقال الجماع في الحج مالك هو مفسد ويعيد حجه إذا لم يمض وقوف عرفة ، وإلا قضاه في القابل نظرا إلى أن حصول الالتذاذ قد نافى تجرد الحج والزهد المطلوب فيه ، بقطع النظر عن تعمد أو نسيان ، وقال في أحد قوليه الشافعي : لا يفسد الحج وعليه هدي ، وأما مغازلة النساء والحديث في شأن الجماع المباح فذريعة ينبغي سدها ؛ لأنه يصرف القلب عن الانقطاع إلى ذكر الله في الحج . وداود الظاهري
وليس من الرفث إنشاد الشعر القديم الذي فيه ذكر الغزل ؛ إذ ليس القصد منه إنشاء الرفث ، وقد حدا راحلته ، وهو محرم ببيت فيه ذكر لفظ من الرفث ، فقال له صاحبه ابن عباس حصين بن قيس : أترفث وأنت محرم ؟ فقال : إن الرفث ما كان عند النساء ؛ أي : الفعل الذي عند النساء ؛ أي : الجماع .
والفسوق معروف وقد تقدم القول فيه غير مرة ، وقد قيل : أراد به هنا النهي عن الذبح للأصنام ، وهو تفسير مروي عن مالك ، وكأنه قاله لأنه يتعلق بإبطال ما كانوا عليه في الجاهلية غير أن الظاهر شمول الفسوق لسائر الفسق ، وقد سكت جميع المفسرين عن حكم الإتيان بالفسوق في مدة الإحرام .
وقرن الفسوق بالرفث الذي هو مفسد للحج يقتضي أن إتيان الفسوق في مدة الإحرام مفسد للحج كذلك ، ولم أر لأحد من الفقهاء أن الفسوق مفسد للحج ، ولا أنه غير مفسد سوى فقال في المحلى : إن مذهب الظاهرية أن المعاصي كلها مفسدة للحج ، والذي [ ص: 235 ] يظهر أن غير الكبائر لا يفسد الحج ، وأن تعمد الكبائر مفسد للحج ، وهو أحرى بإفساده من قربان النساء الذي هو التذاذ مباح ، والله أعلم . ابن حزم
والجدال مصدر جادله إذا خاصمه خصاما شديدا ، وقد بسطنا الكلام عليه عند قوله تعالى : ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم في سورة النساء ؛ إذ فاتنا بيانه هنا .
واختلف في المراد بالجدال هنا ، فقيل : السباب والمغاضبة ، وقيل : تجادل العرب في اختلافهم في الموقف ؛ إذ كان بعضهم يقف في عرفة وبعضهم يقف في جمع ، وروي هذا عن مالك .
واتفق العلماء على أن مدارسة العلم والمناظرة فيه ليست من الجدال المنهي عنه ، وقد سمعت من شيخنا العلامة الوزير أن لما أتم تفسير الكشاف وضعه في الكعبة في مدة الحج بقصد أن يطالعه العلماء الذين يحضرون الموسم ، وقال : من بدا له أن يجادل في شيء فليفعل ، فزعموا أن بعض أهل العلم اعترض عليه قائلا : بماذا فسرت قوله تعالى : الزمخشري ولا جدال في الحج وأنه وجم لها ، وأنا أحسب إن صحت هذه الحكاية أن أعرض عن مجاوبته ؛ لأنه رآه لا يفرق بين الجدال الممنوع في الحج وبين الجدال في العلم ، واتفقوا على أن المجادلة في إنكار المنكر وإقامة حدود الدين ليست من المنهي عنه ، فالمنهي عنه هو ما يجر إلى المغاضبة والمشاتمة وينافي حرمة الحج ولأجل ما في أحوال الجدال من التفصيل كانت الآية مجملة فيما يفسد الحج من أنواع الجدال ، فيرجع في بيان ذلك إلى أدلة أخرى . الزمخشري
وقوله : وما تفعلوا من خير يعلمه الله عقب به النهي عن المنهيات لقصد الاتصاف بأضداد تلك المنهيات ، فكأنه قال : لا تفعلوا ما نهيتم عنه وافعلوا الخير فما تفعلوا يعلمه الله ، وأطلق علم الله وأريد لازمه ، وهو المجازاة على المعلوم بطريق الكناية ، فهو معطوف على قوله : فلا رفث إلخ