يجري هذا الكلام على الوجهين المذكورين في قوله : وإن تكذبوا ، ويترجح أن هذا مسوق من جانب الله تعالى إلى المشركين بأن الجمهور قرءوا " أولم يروا " بياء الغيبة ولم يجر مثل قوله : وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم . ومناسبة التعرض لهذا هو ما جرى من الإشارة إلى البعث في قوله : وإليه ترجعون تنظيرا لحال مشركي العرب بحال قوم إبراهيم .
وقرأ الجمهور " أولم يروا " بياء الغائب ، والضمير عائد إلى الذين كفروا في قوله : وقال الذين كفروا للذين آمنوا ، أو إلى معلوم من سياق الكلام . وعلى وجه أن يكون قوله : وإن تكذبوا إلخ خارجا عن مقالة إبراهيم يكون ضمير الغائب في أولم يروا التفاتا . والالتفات من الخطاب إلى الغيبة لنكتة إبعادهم عن شرف الحضور بعد الإخبار عنهم بأنهم مكذبون .
وقرأ حمزة ، ، والكسائي وأبو بكر عن عاصم ، وخلف " أولم تروا " بالفوقية على [ ص: 228 ] طريقة وإن تكذبوا على الوجهين المذكورين .
والهمزة للاستفهام الإنكاري عن عدم الرؤية ، نزلوا منزلة من لم ير فأنكر عليهم .
والرؤية يجوز أن تكون بصرية ، والاستدلال بما هو مشاهد من تجدد المخلوقات في كل حين بالولادة وبروز النبات دليل واضح لكل ذي بصر .
وإبداء الخلق : بدؤه وإيجاده بعد أن لم يكن موجودا . يقال : " أبدأ " بهمزة في أوله ، و " بدأ " بدونها ، وقد وردا معا في هذه الآية إذ قال : كيف يبدئ الله الخلق ثم قال فانظروا كيف بدأ الخلق ولم يجئ في أسمائه تعالى إلا المبدئ دون البادئ .
وأحسب أنه لا يقال " أبدأ " بهمز في أوله إلا إذا كان معطوفا عليه " يعيد " ، ولم أر من قيده بهذا .
والخلق : مصدر بمعنى المفعول ، أي المخلوق كقوله تعالى : هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه .
وجيء يبدئ بصيغة المضارع لإفادة تجدد بدء الخلق كلما وجه الناظر بصره في المخلوقات ، والجملة انتهت بقوله : يبدئ الله الخلق . وأما جملة ثم يعيده فهي مستأنفة ابتدائية ، فليست معمولة لفعل يروا ؛ لأن إعادة الخلق بعد انعدامه ليست مرئية لهم ولا هم يظنونها ، فتعين أن تكون جملة ثم يعيده مستقلة معترضة بين جملة أولم يروا وجملة قل سيروا في الأرض . و ثم للتراخي الرتبي ؛ لأن أمر إعادة الخلق أهم وأرفع رتبة من بدئه ؛ لأنه غير مشاهد ، ولأنهم ينكرونه ولا ينكرون بدء الخلق ، قال في " الكشاف " : هو كقولك : مازلت أوثر فلانا وأستخلفه على من أخلفه ، يعني فجملة : وأستخلفه ، ليست معطوفة على جملة : " أوثر " ، ولا داخلة في خبر " مازلت " ؛ لأنك تقوله قبل أن تستخلفه فضلا [ ص: 229 ] عن تكرر الاستخلاف منك . هذه طريقة " الكشاف " ، وهو يجعل موقع " ثم يعيده " كموقع التفريع على الاستفهام الإنكاري .
واعلم أن هذين الفعلين " يبدئ ويعيد " وما تصرف منهما مما جرى استعمالهما متزاوجين بمنزلة الاتباع كقوله تعالى : وما يبدئ الباطل وما يعيد في سورة سبأ . قال في " الكشاف " في سورة سبأ : فجعلوا قولهم : لا يبدئ ولا يعيد ، مثلا في الهلاك ، ومنه قول عبيد :
فاليوم لا يبدي ولا يعيد
ويقال : أبدأ وأعاد بمعنى تصرف تصرفا واسعا ، قال بشار :فهمومي مظلة بادئات وعودا
و " كيف " اسم استفهام وهي معلقة فعل يروا عن العمل في معموله أو معموليه . والمعنى : ألم يتأملوا في هذا السؤال ، أي في الجواب عنه . والاستفهام " بكيف " مستعمل في التنبيه ولفت النظر لا في طلب الإخبار .
وجملة إن ذلك على الله يسير مبينة لما تضمنه الاستفهام من إنكار عدم الرؤية المؤدية إلى العلم بوقوع الإعادة ، إذ أحالوها مع أن إعادة الخلق إن لم تكن أيسر من الإعادة في العرف فلا أقل من كونها مساوية لها ، وهذا كقوله تعالى : وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه . والإشارة بـ ذلك إلى المصدر المفاد من يعيده مثل عود الضمير على نظيره في قوله : وهو أهون عليه . ووجه توكيد الجملة بـ " إن " رد دعواهم أنه مستحيل .