الأظهر أن هذا عطف على قوله وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل الآية وأن ما بينها من الأخبار المسوقة للاعتبار كما تقدم واقع موقع الاستطراد والاعتراض فيكون ضمير " عليهم " عائدا إلى الذين كفروا من قوله وقال الذين كفروا هل ندلكم الخ . والذي درج عليه المفسرون أن ضمير عليهم عائد إلى سبأ المتحدث عنهم . ولكن لا مفر من أن قوله تعالى بعد ذلك قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله الآيات هو عود إلى محاجة المشركين المنتقل منها بذكر قصة داود وسليمان وأهل سبأ . وصلوحية الآية للمحملين ناشئ من موقعها وهذا من بلاغة القرآن المستفادة من ترتيب مواقع الآية .
فالمقصود تنبيه المؤمنين إلى مكائد الشيطان وسوء عاقبة أتباعه ليحذروه ويستيقظوا لكيده فلا يقعوا في شرك وسوسته .
فالمعنى : أن الشيطان سول للمشركين أو سول للممثل بهم حال المشركين الإشراك بالمنعم وحسن لهم ضد النعمة حتى تمنوه وتوسم فيهم الانخداع له فألقى إليهم وسوسته وكره إليهم نصائح الصالحين منهم فصدق توسمه فيهم أنهم يأخذون بدعوته فقبلوها وأعرضوا عن خلافها فاتبعوه .
ففي قوله صدق عليهم إبليس ظنه إيجاز حذف لأن صدق الظن المفرع عنه اتباعهم يقتضي أنه دعاهم إلى شيء ظانا استجابة دعوته إياهم .
وقرأ الجمهور " صدق " بتخفيف الدال فـ " إبليس " فاعل و " ظنه " منصوب على نزع الخافض ، أي في ظنه . و " عليهم " متعلق بـ " صدق " لتضمينه معنى أوقع أو ألقى ، أي أوقع عليهم ظنه فصدق فيه . والصدق بمعنى الإصابة في الظن لأن الإصابة مطابقة للواقع فهي من قبيل الصدق . قال أبو الغول الطهوي من شعراء الحماسة :
فدت نفسي وما ملكت يميني فوارس صدقت فيهم ظنوني
[ ص: 183 ] وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف : " صدق " بتشديد الدال بمعنى حقق ظنه عليهم حين انخدعوا لوسوسته فهو لما وسوس لهم ظن أنهم يطيعونه فجد في الوسوسة حتى استهواهم فحقق ظنه عليهم .وفي ( على ) إيماء إلى أن عمل إبليس كان من جنس التغلب والاستعلاء عليهم .
وقوله فاتبعوه تفريع وتعقيب على فعل " صدق عليهم إبليس ظنه " أي : تحقق ظنه حين انفعلوا لفعل وسوسته فبادروا إلى العمل بما دعاهم إليه من الإشراك والكفران .
و " إلا فريقا " استثناء من ضمير الرفع في " فاتبعوه " وهو استثناء متصل إن كان ضمير " اتبعوه " عائدا على المشركين وأما إن كان عائدا على أهل سبإ فيحتمل الاتصال إن كان فيهم مؤمنون وإلا فهو استثناء منقطع ، أي لم يعصه في ذلك إلا فريق من المؤمنين وهم الذين آمنوا من أهل مكة ، أو الذين آمنوا من أهل سبإ . فلعل فيهم طائفة مؤمنين ممن نجوا قبل إرسال سيل العرم .
والفريق : الطائفة مطلقا ، واستثناؤها من ضمير الجماعة يؤذن بأنهم قليل بالنسبة للبقية وإلا فإن الفريق يصدق بالجماعة الكثيرة كما في قوله تعالى فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة .
والتعريف في المؤمنين للاستغراق و " من " تبعيضية ، أي : إلا فريقا هم بعض جماعات المؤمنين في الأزمان والبلدان .
وقوله وما كان له عليهم من سلطان أي ما كان للشيطان من سلطان على الذين اتبعوه .
وفعل كان في النفي مع " من " التي تفيد الاستغراق في النفي يفيد انتفاء السلطان ، أي الملك والتصريف للشيطان ، أي ليست له قدرة ذاتية هو مستقل بها يتصرف بها في العالم كيف يشاء لأن تلك القدرة خاصة بالله تعالى .
والاستثناء في قوله " إلا لنعلم " استثناء من علل . فيفيد أن تأثير وسوسته فيهم كان بتمكين من الله ، أي لكن جعلنا الشيطان سببا يتوجه إلى عقولهم وإرادتهم فتخامرها وسوسته فيتأثر منها فريق وينجو منها فريق بما أودع الله في هؤلاء [ ص: 184 ] وهؤلاء من قوة الانفعال والممانعة على حسب السنن التي أودعها الله في المخلوقات .
ويجوز أن يكون الاستثناء من عموم سلطان ، وحذف المستثنى ودل عليه علته والتقدير : إلا سلطانا لنعلم من يؤمن بالآخرة . فيدل على أنه سلطان مجعول له بجعل الله بقرينة أن تعليله مسند إلى ضمير الجلالة .
وانظر ما قلناه عند قوله تعالى إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين في سورة الحجر وضمه إلى ما قلناه هنا .
واقتصر من علل تمكين الشيطان من السلطان على تمييز من يؤمن بالآخرة ومن لا يؤمن بها لمراعاة أحوال الذين سبقت إليهم الموعظة بأهل سبإ وهم كفار قريش لأن جحودهم قرين للشرك ومساو له فإنهم لو آمنوا بالآخرة لآمنوا بربها وهو الرب الواحد الذي لا شريك له وإلا فإن علل جعل الشيطان للوسوسة كثيرة مرجعها إلى تمييز الكفار من المؤمنين ، والمتقين من المعرضين . وكني بـ " نعلم " عن إظهار التمييز بين الحالين لأن الظهور يلازم العلم في العرف . قال قبيصة الطائي من رجال حرب ذي قار :
وأقبلت والخطي يخطر بيننا لأعلم من جبانها من شجاعها
[ ص: 185 ] وجيء بحرف الظرفية للدلالة على إحاطة الشك بنفوسهم ويتعلق قوله " منها " بقوله بـ " شك " . وجملة وربك على كل شيء حفيظ تذييل . والحفيظ : الذي لا يخرج عن مقدرته ما هو في حفظه ، وهو يقتضي العلم والقدرة إذ بمجموعها تتقوم ماهية الحفظ ولذلك يتبع الحفظ بالعلم كثيرا كقوله تعالى إني حفيظ عليم . وصيغة فعيل تدل على قوة الفعل وأفاد عموم " كل شيء " أنه لا يخرج عن علمه شيء من الكائنات فتنزل هذا التذييل منزلة الاحتراس عن غير المعنى الكنائي من قوله لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك ، أي ليظهر ذلك لكل أحد فتقوم الحجة لهم وعليهم .