واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون أعقب وصف إعراضهم وغفلتهم عن الانتفاع بهدي القرآن بتهديدهم [ ص: 358 ] بعذاب الدنيا ؛ إذ قد جاء في آخر هذه القصة قوله إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون .
والضرب مجاز مشهور في معنى الوضع والجعل ، ومنه : ضرب ختمه . وضربت بيتا ، وهو هنا في الجعل وتقدم عند قوله تعالى إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما في سورة البقرة .
والمعنى : اجعل أصحاب القرية والمرسلين إليهم شبها لأهل مكة وإرسالك إليهم .
و " لهم " يجوز أن يتعلق بـ " اضرب " أي اضرب مثلا لأجلهم ، أي لأجل أن يعتبروا كقوله تعالى ضرب لكم مثلا من أنفسكم ، ويجوز أن يكون لهم صفة لـ " مثل " ، أي اضرب شبيها لهم كقوله تعالى فلا تضربوا لله الأمثال .
والمثل : الشبيه ، فقوله واضرب لهم مثلا معناه ونظر مثلا ، أي شبه حالهم في تكذيبهم بك بشبيه من السابقين ، ولما غلب المثل في المشابه في الحال وكان الضرب أعم ، جعل مثلا مفعولا لـ " اضرب " ، أي نظر حالهم بمشابه فيها فحصل الاختلاف بين اضرب ومثلا بالاعتبار . وانتصب مثلا على الحال .
وانتصب ( أصحاب القرية ) على البيان لـ " مثلا " ، أو بدل ، ويجوز أن يكون مفعولا أول لـ " اضرب " و " مثلا " مفعولا ثانيا كقوله تعالى " ضرب الله مثلا قرية " .
والمعنى : أن حال المشركين من أهل مكة كحال أصحاب القرية الممثل بهم .
والقرية ، قال المفسرون عن هي " ( ابن عباس أنطاكية ) " وهي مدينة بالشام متاخمة لبلاد اليونان .
والمرسلون إليها قال قتادة : هم من الحواريين بعثهم عيسى عليه السلام وكان ذلك حين رفع عيسى . وذكروا أسماءهم على اختلاف في ذلك .
[ ص: 359 ] وتحقيق القصة : أن عيسى عليه السلام لم يدع إلى دينه غير بني إسرائيل ولم يكن الدين الذي أرسل به إلا تكملة لما اقتضت الحكمة الإلهية إكماله من شريعة التوارة ، ولكن عيسى أوصى الحواريين أن لا يغفلوا عن نهي الناس عن عبادة الأصنام فكانوا إذا رأوا رؤيا أو خطر لهم خاطر بالتوجه إلى بلد من بلاد إسرائيل أو مما جاورها ، أو خطر في نفوسهم إلهام بالتوجه إلى بلد علموا أن ذلك وحي من الله لتحقيق وصية عيسى عليه السلام . وكان ذلك في حدود سنة أربعين بعد مولد عيسى عليه السلام .
ووقعت اختلافات للمفسرين في تعيين أهل أنطاكية وتحريفات في الأسماء ، والذي ينطبق على ما في كتاب أعمال الرسل من كتب العهد الجديد أن " الرسل الثلاثة الذين أرسلوا إلى برنابا " و " شاول " المدعو " بولس " من تلاميذ الحواريين ووصفا بأنهما من الأنبياء ، كانا في أنطاكية مرسلين للتعليم ، وأنهما عززا بالتلميذ " سيلا " . وذكر المفسرون أن الثالث هو " شمعون " ، لكن ليس في سفر الأعمال ما يقتضي أن بولس وبرنابا عززا بسمعان . ووقع في الإصحاح الثالث عشر منه أنه كان نبي في أنطاكية اسمه " سمعان " .
والمكذبون هم من كانوا سكانا بأنطاكية من اليهود واليونان ، وليس في أعمال الرسل سوى كلمات مجملة عن التكذيب والمحاورة التي جرت بين المرسلين والمرسل إليهم ، فذكر أنه كان هنالك نفر من اليهود يطعنون في صدق دعوة بولس وبرنابا ويثيرون عليهما نساء الذين يؤمنون بعيسى من وجوه المدينة من اليونان وغيرهم ، حتى اضطر " بولس وبرنابا " إلى أن خرجا من أنطاكية وقصدا أيقونية وما جاورها وقاومهما يهود بعض تلك المدن ، وأن أحبار النصارى في تلك المدائن رأوا أن يعيدوا بولس وبرنابا إلى أنطاكية . وبعد عودتهما حصل لهما ما حصل لهما في الأولى وبالخصوص في قضية وجوب الختان على من يدخل في الدين ، فذهب بولس وبرنابا إلى أورشليم لمراجعة الحواريين فرأى أحبار أورشليم أن يؤيداهما برجلين [ ص: 360 ] من الأنبياء هما " برسابا " و " سيلا " . فأما " برسابا " فلم يمكث . وأما " سيلا " فبقي مع " بولس وبرنابا " يعظون الناس . ولعل ذلك كان بوحي من الله إليهم وإلى أصحابهم من الحواريين . فهذا معنى قوله تعالى إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث أسند الإرسال والتعزيز إلى الله .
والتعزيز : التقوية ، وفي هذه المادة معنى جعل المقوى عزيزا ، فالأحسن أن التعزيز هو النصر .
وقرأ أبو بكر عن عاصم " فعززنا " بتخفيف الزاي الأولى ، وفعل عز بمعنى يحيي مرادفا لعزز كما قالوا شد وشدد . وقرأ الباقون بتشديد الزاي .
وتأكيد قولهم إنا إليكم مرسلون لأجل تكذيبهم إياهم فأكدوا الخبر تأكيدا وسطا ، ويسمى هذا ضربا طلبيا .
وتقديم المجرور للاهتمام بأمر المرسل إليهم المقصود إيمانهم بعيسى .