موقع هذه الآية هنا ، بعد قوله والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن إلى آخرها في غاية الإشكال : فإن حكمها يخالف ، في الظاهر ، حكم نظيرتها التي تقدمت ، وعلى قول الجمهور هاته الآية سابقة في النزول على آية والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن يزداد موقعها غرابة : إذ هي سابقة في النزول متأخرة في الوضع .
والجمهور على أن هذه الآية شرعت حكم تربص المتوفى عنها حولا في بيت زوجها وذلك في أول الإسلام ، ثم نسخ ذلك بعدة الوفاة وبالميراث ، روي هذا عن ، ابن عباس وقتادة ، والربيع ، . وفي وجابر بن زيد ، في كتاب التفسير ، عن البخاري عبد الله بن الزبير قال : قلت لعثمان هذه الآية والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم قد نسختها الآية الأخرى ، فلم تكتبها ، قال : لا أغير شيئا منه عن مكانه يا ابن أخي فاقتضى أن هذا هو موضع هذه الآية ، وأن الآية التي قبلها ناسخة لها ، وعليه فيكون وضعها هنا بتوقيف من النبيء صلى الله عليه وسلم لقول عثمان لا أغير شيئا منه عن مكانه . ويحتمل أن ابن الزبير أراد بالآية الأخرى آية سورة النساء في الميراث .
وفي : قال البخاري مجاهد : شرع الله العدة أربعة أشهر وعشرا تعتد عند أهل زوجها واجبا ، ثم نزلت وصية لأزواجهم فجعل الله لها تمام السنة وصية ، إن شاءت سكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت ، ولم يكن لها يومئذ ميراث معين ، فكان ذلك حقها في تركة زوجها ، ثم نسخ ذلك بالميراث . فلا تعرض في هذه الآية للعدة ولكنها في بيان حكم آخر وهو إيجاب الوصية لها بالسكنى حولا : إن شاءت أن تحتبس عن التزوج حولا مراعاة لما [ ص: 472 ] كانوا عليه ، ويكون الحول تكميلا لمدة السكنى لا العدة ، وهذا الذي قاله مجاهد أصرح ما في هذا الباب ، وهو المقبول .
واعلموا أن العرب ، في ، كان من عادتهم المتبعة أن المرأة إذا توفي عنها زوجها تمكث في شر بيت لها حولا ، محدة لابسة شر ثيابها متجنبة الزينة والطيب ، كما تقدم في حاشية تفسير قوله تعالى الجاهلية فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف عن الموطأ ، فلما جاء الإسلام أبطل ذلك الغلو في سوء الحالة ، وشرع عدة الوفاة والإحداد ، فلما ثقل ذلك على الناس ، في مبدأ أمر تغيير العادة ، أمر الأزواج بالوصية لأزواجهم بسكنى الحول بمنزل الزوج والإنفاق عليها من ماله ، إن شاءت السكنى بمنزل الزوج ، فإن خرجت وأبت السكنى هنالك لم ينفق عليها ، فصار الخيار للمرأة في ذلك بعد أن كان حقا عليها لا تستطيع تركه ، ثم نسخ الإنفاق والوصية بالميراث ، فالله لما أراد نسخ عدة الجاهلية ، وراعى لطفه بالناس في قطعهم عن معتادهم ، أقر الاعتداد بالحول ، وأقر ما معه من المكث في البيت مدة العدة ، لكنه أوقفه على وصية الزوج ، عند وفاته ، لزوجه بالحسنى ، وعلى قبول الزوجة ذلك ، فإن لم يوص لها أو لم تقبل ، فليس عليها السكنى ، ولها الخروج ، وتعتد حيث شاءت ، ونسخ وصية السكنى حولا بالمواريث ، وبقي لها السكنى في محل زوجها مدة العدة مشروعا بحديث الفريعة .
وقوله وصية لأزواجهم قرأه نافع ، وابن كثير ، ، والكسائي وأبو بكر عن عاصم ، وأبو جعفر ، ويعقوب ، وخلف : برفع وصية على الابتداء ، محولا عن المفعول المطلق ، وأصله وصية بالنصب بدلا من فعله ، فحول إلى الرفع لقصد الدوام كقولهم : حمد وشكر ، وصبر جميل كما تقدم في تفسير الحمد لله ، وقوله : فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان .
ولما كان المصدر في المفعول المطلق ، في مثل هذا ، دالا على النوعية ، جاز عند وقوعه مبتدأ أن يبقى منكرا ، إذ ليس المقصود فردا غير معين حتى ينافي الابتداء ، بل المقصود النوع ، وعليه فقوله : ( لأزواجهم ) خبر ، وقرأه أبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، وحفص عن عاصم : وصية بالنصب فيكون قوله لأزواجهم متعلقا به على أصل المفعول المطلق الآتي بدلا من فعله لإفادة الأمر . وظاهر الآية أن الوصية وصية المتوفين ، فتكون من الوصية التي أمر بها من تحضره الوفاة : مثل الوصية التي في قوله تعالى كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين فعلى هذا الاعتبار [ ص: 473 ] فلا سكنى ، لها ، وقد تقدم أن إذا لم يوص المتوفى لزوجه بالسكنى مخيرة بين أن تقبل الوصية ، وبين أن تخرج وقال الزوجة مع الوصية ابن عطية : قالت فرقة : منهم ، ابن عباس والضحاك ، وعطاء ، والربيع : أن قوله وصية لأزواجهم هي وصية من الله تعالى للأزواج بلزوم البيوت حولا ، وعلى هذا القول فهو كقوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم وقوله وصية من الله فذلك لا يتوقف عن إيصاء المتوفين ولا على قبول الزوجات ، بل هو حكم من الله يجب تنفيذه ، وعليه يتعين أن يكون لأزواجهم متعلقا بوصية ، وتعلقه به هو الذي سوغ الابتداء به ، والخبر محذوف دل عليه المقام لعدم تأتي ما قرر في الوجه الأول .
وقوله متاعا إلى الحول : تقدم معنى المتاع في قوله متاعا بالمعروف حقا على المحسنين والمتاع هنا هو السكنى ، وهو منصوب على حذف فعله أي ليمتعوهن متاعا ، وانتصب متاعا على نزع الخافض ، فهو متعلق بوصية والتقدير وصية لأزواجهم بمتاع . و " إلى " مؤذنة بشيء جعلت غايته الحول ، وتقديره : متاعا بسكنى إلى الحول ، كما دل عليه قوله غير إخراج .
والتعريف في الحول تعريف العهد ، وهو الحول المعروف عند العرب من عهد الجاهلية الذي تعتد به المرأة المتوفى عنها ، فهو كتعريفه في قول لبيد :
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
وقوله غير إخراج حال من متاعا مؤكدة ، أو بدل من متاعا بدلا مطابقا ، والعرب تؤكد الشيء بنفي ضده ، ومنه قول أبي العباس الأعمى يمدح بني أمية :خطباء على المنابر فرسا ن عليها وقالة غير خرس
[ ص: 474 ] وعلى قول الفرقة الأخرى التي جعلت الوصية من الله ، يجب أن يكون قوله فإن خرجن عطفا على مقدر للإيجاز ، مثل أن اضرب بعصاك البحر فانفلق أي فإن تم الحول فخرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن : أي من تزوج وغيره ، من المعروف عدا ، المنكر كالزنا وغيره ، والحاصل أن المعروف يفسر : بغير ما حرم عليها في الحالة التي وقع فيها الخروج وكل ذلك فعل في نفسها ، قال في تفسيره ( وتنكير معروف هنا وتعريفه في الآية المتقدمة ، لأن هذه الآية نزلت قبل الأخرى ، فصار هنالك معهودا ) . ابن عرفة
وأحسب هذا غير مستقيم ، وأن التعريف تعريف الجنس ، وهو والنكرة سواء ، وقد تقدم الكلام عن القراءة المنسوبة إلى علي - بفتح ياء يتوفون - وما فيها من نكتة عربية عند قوله تعالى والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن الآية .