[ ص: 149 ] nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=101nindex.php?page=treesubj&link=31870_29008فبشرناه بغلام حليم nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=102فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين الفاء في " فبشرناه " للتعقيب ، والبشارة : الإخبار بخير وارد عن قرب أو على بعد ، فإن كان الله بشر
إبراهيم بأنه يولد له ولد أو يوجد له نسل عقب دعائه ، كما هو الظاهر ، وهو صريح في سفر التكوين في الإصحاح الخامس عشر ، فقد أخبره بأنه استجاب له وأنه يهبه ولدا بعد زمان ، فالتعقيب على ظاهره ، وإن كان الله بشره بغلام بعد ذلك حين حملت منه
هاجر جاريته بعد خروجه بمدة طويلة ، فالتعقيب نسبي ، أي بشرناه حين قدرنا ذلك أول بشارة بغلام ، فصار التعقيب آئلا إلى المبادرة كما يقال : تزوج فولد له ، وعلى الاحتمالين فالغلام الذي بشر به هو الولد الأول الذي ولد له وهو
إسماعيل لا محالة .
والحليم : الموصوف بالحلم ، وهو اسم يجمع أصالة الرأي ومكارم الأخلاق والرحمة بالمخلوق . قيل : ما نعت الله الأنبياء بأقل مما نعتهم بالحلم .
وهذا
nindex.php?page=treesubj&link=29237الغلام الذي بشر به إبراهيم هو إسماعيل ابنه البكر ، وهذا غير الغلام الذي بشره به الملائكة الذين أرسلوا إلى قوم
لوط في قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=28قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم فذلك وصف بأنه " عليم " ، وهذا وصف ب " حليم " . وأيضا ذلك كانت البشارة به بمحضر
سارة أمه وقد جعلت هي المبشرة في قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=71فبشرناه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=72قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا ، فتلك بشارة كرامة ، والأولى بشارة استجابة دعائه ، فلما ولد له
إسماعيل تحقق أمل
إبراهيم أن يكون له وارث من صلبه .
فالبشارة
بإسماعيل لما كانت عقب دعاء
إبراهيم أن يهب الله له من الصالحين عطفت هنا بفاء التعقيب ، وبشارته
بإسحاق ذكرت في هذه السورة معطوفا بالواو عطف القصة على القصة .
والفاء في
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=102فلما بلغ معه السعي فصيحة لأنها مفصحة عن مقدر ، تقديره : فولد له ويفع وبلغ السعي ، فلما بلغ السعي قال : يا بني إلخ ، أي بلغ أن
[ ص: 150 ] يسعى مع أبيه ، أي بلغ سن من يمشي مع
إبراهيم في شئونه .
فقوله " معه " متعلق بالسعي والضمير المستتر في " بلغ " للغلام ، والضمير المضاف إليه " معه " عائد إلى
إبراهيم . و " السعي " مفعول " بلغ " ولا حجة لمن منع تقدم معمول المصدر عليه ، على أن الظروف يتوسع فيها ما لا يتوسع في غيرها من المعمولات .
وكان عمر
إسماعيل يومئذ ثلاث عشرة سنة وحينئذ حدث
إبراهيم ابنه بما رآه في المنام ، ورؤيا الأنبياء وحي ، وكان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة ، ولكن الشريعة لم يوح بها إليه إلا في اليقظة مع رؤية
جبريل دون رؤيا المنام ، وإنما كانت الرؤيا وحيا له في غير التشريع مثل الكشف على ما يقع وما أعد له وبعض ما يحل بأمته أو بأصحابه ، فقد رأى في المنام أنه يهاجر من
مكة إلى أرض ذات نخل ، فلم يهاجر حتى أذن له في الهجرة كما أخبر بذلك
أبا بكر - رضي الله عنه - ، ورأى بقرا تذبح فكان تأويل رؤياه من استشهد من المسلمين يوم
أحد ، ولقد يرجح قول القائلين من السلف بأن الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقظة وبالجسد ، على قول القائلين بأنه كان في المنام وبالروح خاصة ، فإن في حديث الإسراء أن الله فرض الصلاة في ليلته ، والصلاة ثاني أركان الإسلام فهي حقيقة بأن تفرض في أكمل أحوال الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم وهو حال اليقظة ، فافهم .
وأمر الله
إبراهيم بذبح ولده أمر ابتلاء .
وليس المقصود به التشريع إذ لو كان تشريعا لما نسخ قبل العمل به ؛ لأن ذلك يفيت الحكمة من التشريع بخلاف أمر الابتلاء .
والمقصود من هذا الابتلاء إظهار عزمه وإثبات علو مرتبته في طاعة ربه ، فإن الولد عزيز على نفس الوالد ، والولد الوحيد الذي هو أمل الوالد في مستقبله أشد عزة على نفسه لا محالة ، وقد علمت أنه سأل ولدا ليرثه نسله ولا يرثه مواليه ، فبعد أن أقر الله عينه بإجابة سؤله وترعرع ولده أمره بأن يذبحه فينعدم نسله ويخيب أمله ويزول أنسه ويتولى بيده إعدام أحب النفوس إليه ، وذلك أعظم الابتلاء . فقابل أمر ربه بالامتثال وحصلت حكمة الله من ابتلائه ، وهذا معنى قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=106إن هذا لهو البلاء المبين .
[ ص: 151 ] وإنما برز هذا الابتلاء في صورة الوحي المنامي إكراما
لإبراهيم عن أن يزعج بالأمر بذبح ولده بوحي في اليقظة لأن رؤى المنام يعقبها تعبيرها ، إذ قد تكون مشتملة على رموز خفية ، وفي ذلك تأنيس لنفسه لتلقي هذا التكليف الشاق عليه وهو ذبح ابنه الوحيد .
والفاء في قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=102فانظر ماذا ترى فاء تفريع ، أو هي فاء الفصيحة ، أي إذا علمت هذا فانظر ماذا ترى .
والنظر هنا نظر العقل لا نظر البصر ، فحقه أن يتعدى إلى مفعولين ولكن علقه الاستفهام عن العمل .
والمعنى : تأمل في الذي تقابل به هذا الأمر ، وذلك لأن الأمر لما تعلق بذات الغلام كان للغلام حظ في الامتثال ، وكان عرض
إبراهيم هذا على ابنه عرض اختيار لمقدار طواعيته بإجابة أمر الله في ذاته لتحصل له بالرضى والامتثال مرتبة بذل نفسه في إرضاء الله ، وهو لا يرجو من ابنه إلا القبول لأنه أعلم بصلاح ابنه ، وليس
إبراهيم مأمورا بذبح ابنه جبرا ، بل الأمر بالذبح تعلق بمأمورين : أحدهما بتلقي الوحي ، والآخر : بتبليغ الرسول إليه ، فلو قدر عصيانه لكان حاله في ذلك حال ابن
نوح الذي أبى أن يركب السفينة لما دعاه أبوه فاعتبر كافرا .
وقرأ الجمهور " ماذا ترى " بفتح التاء والراء . وقرأ
حمزة nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي وخلف بضم التاء وكسر الراء ، أي ماذا تريني من امتثال أو عدمه .
وحكي جوابه فقال : "
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=102يا أبت افعل ما تؤمر " دون عطف ، جريا على حكاية المقاولات كما تقدم عند قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=30قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها في سورة البقرة .
وابتداء الجواب بالنداء واستحضار المنادى بوصف الأبوة وإضافة الأب إلى ياء المتكلم المعوض عنها التاء المشعر تعويضها بصيغة ترقيق وتحنن .
والتعبير عن الذبح بالموصول وهو " ما تؤمر " دون أن يقول : اذبحني ، يفيد وحده إيماء إلى السبب الذي جعل جوابه امتثالا لذبحه .
[ ص: 152 ] وحذف المتعلق بفعل " تؤمر " لظهور تقديره : أي ما تؤمر به . وبقي الفعل كأنه من الأفعال المتعدية ، وهذا الحذف يسمى بالحذف والإيصال ، كقول
عمرو بن معد يكرب :
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به فقد تركتك ذا مال وذا نشب
وصيغة الأمر في قوله " افعل " مستعملة في الإذن .
وعدل عن أن يقال : اذبحني ، إلى
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=102افعل ما تؤمر للجمع بين الإذن وتعليله ، أي أذنت لك أن تذبحني لأن الله أمرك بذلك ، ففيه تصديق أبيه وامتثال أمر الله فيه .
وجملة " ستجدني " هي الجواب لأن الجمل التي قبلها تمهيد للجواب كما علمت ، فإنه بعد أن حثه على فعل ما أمر به وعده بالامتثال له وبأنه لا يجزع ولا يهلع بل يكون صابرا ، وفي ذلك تخفيف من عبء ما عسى أن يعرض لأبيه من الحزن لكونه يعامل ولده بما يكره . وهذا وعد قد وفى به حين أمكن أباه من رقبته ، وهو الوعد الذي شكره الله عليه في الآية الأخرى في قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=54واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد ، وقد قرن وعده ب " إن شاء الله " استعانة على تحقيقه .
وفي قوله " من الصابرين " من المبالغة في اتصافه بالصبر ما ليس في الوصف : بصابر ؛ لأنه يفيد أنه سيجده في عداد الذين اشتهروا بالصبر وعرفوا به ، ألا ترى أن
موسى - عليه السلام - لما وعد
الخضر قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=69ستجدني إن شاء الله صابرا لأنه حمل على التصبر إجابة لمقترح الخضر .
[ ص: 149 ] nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=101nindex.php?page=treesubj&link=31870_29008فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=102فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيِّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّيَ أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِيَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ الْفَاءُ فِي " فَبَشَّرْنَاهُ " لِلتَّعْقِيبِ ، وَالْبِشَارَةُ : الْإِخْبَارُ بِخَيْرٍ وَارِدٍ عَنْ قُرْبٍ أَوْ عَلَى بُعْدٍ ، فَإِنْ كَانَ اللَّهُ بَشَّرَ
إِبْرَاهِيمَ بِأَنَّهُ يُولَدُ لَهُ وَلَدٌ أَوْ يُوجَدُ لَهُ نَسْلٌ عَقِبَ دُعَائِهِ ، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ فِي الْإِصْحَاحِ الْخَامِسِ عَشَرَ ، فَقَدْ أَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ اسْتَجَابَ لَهُ وَأَنَّهُ يَهَبُهُ وَلَدًا بَعْدَ زَمَانٍ ، فَالتَّعْقِيبُ عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ بَشَّرَهُ بِغُلَامٍ بَعْدَ ذَلِكَ حِينَ حَمَلَتْ مِنْهُ
هَاجَرُ جَارَيْتُهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ ، فَالتَّعْقِيبُ نِسْبِيٌّ ، أَيْ بَشَّرْنَاهُ حِينَ قَدَّرْنَا ذَلِكَ أَوَّلَ بِشَارَةٍ بِغُلَامٍ ، فَصَارَ التَّعْقِيبُ آئِلًا إِلَى الْمُبَادَرَةِ كَمَا يُقَالُ : تَزَوَّجَ فَوُلِدَ لَهُ ، وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ فَالْغُلَامُ الَّذِي بُشِّرَ بِهِ هُوَ الْوَلَدُ الْأَوَّلُ الَّذِي وُلِدَ لَهُ وَهُوَ
إِسْمَاعِيلُ لَا مَحَالَةَ .
وَالْحَلِيمُ : الْمَوْصُوفُ بِالْحِلْمِ ، وَهُوَ اسْمٌ يَجْمَعُ أَصَالَةَ الرَّأْيِ وَمَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ وَالرَّحْمَةَ بِالْمَخْلُوقِ . قِيلَ : مَا نَعَتَ اللَّهَ الْأَنْبِيَاءُ بِأَقَلَّ مِمَّا نَعَتَهُمْ بِالْحِلْمِ .
وَهَذَا
nindex.php?page=treesubj&link=29237الْغُلَامُ الَّذِي بُشِّرَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ هُوَ إِسْمَاعِيلُ ابْنُهُ الْبِكْرُ ، وَهَذَا غَيْرُ الْغُلَامِ الَّذِي بَشَّرَهُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَى قَوْمِ
لُوطٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=28قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ فَذَلِكَ وُصِفَ بِأَنَّهُ " عَلِيمٌ " ، وَهَذَا وُصِفَ بِ " حَلِيمٍ " . وَأَيْضًا ذَلِكَ كَانَتِ الْبِشَارَةُ بِهِ بِمَحْضَرِ
سَارَةَ أُمِّهِ وَقَدْ جُعِلَتْ هِيَ الْمُبَشَّرَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=71فَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=72قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا ، فَتِلْكَ بِشَارَةُ كَرَامَةٍ ، وَالْأَوْلَى بِشَارَةُ اسْتِجَابَةِ دُعَائِهِ ، فَلَمَّا وُلِدَ لَهُ
إِسْمَاعِيلُ تَحَقَّقَ أَمَلُ
إِبْرَاهِيمَ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَارِثٌ مِنْ صُلْبِهِ .
فَالْبِشَارَةُ
بِإِسْمَاعِيلَ لَمَّا كَانَتْ عَقِبَ دُعَاءِ
إِبْرَاهِيمَ أَنْ يَهَبَ اللَّهُ لَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ عُطِفَتْ هُنَا بِفَاءِ التَّعْقِيبِ ، وَبِشَارَتُهُ
بِإِسْحَاقَ ذُكِرَتْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَعْطُوفًا بِالْوَاوِ عَطْفَ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ .
وَالْفَاءُ فِي
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=102فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ فَصِيحَةٌ لِأَنَّهَا مُفْصِحَةٌ عَنْ مُقَدَّرٍ ، تَقْدِيرُهُ : فَوُلِدَ لَهُ وَيَفَعَ وَبَلَغَ السَّعْيَ ، فَلَمَّا بَلَغَ السَّعْيَ قَالَ : يَا بُنَيَّ إِلَخْ ، أَيْ بَلَغَ أَنْ
[ ص: 150 ] يَسْعَى مَعَ أَبِيهِ ، أَيْ بَلَغَ سِنَّ مَنْ يَمْشِي مَعَ
إِبْرَاهِيمَ فِي شُئُونِهِ .
فَقَوْلُهُ " مَعَهُ " مُتَعَلِّقٌ بِالسَّعْيِ وَالضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي " بَلَغَ " لِلْغُلَامِ ، وَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ " مَعَهُ " عَائِدٌ إِلَى
إِبْرَاهِيمَ . وَ " السَّعْيُ " مَفْعُولُ " بَلَغَ " وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ مَنَعَ تَقَدُّمَ مَعْمُولِ الْمَصْدَرِ عَلَيْهِ ، عَلَى أَنَّ الظُّرُوفَ يُتَوَسَّعُ فِيهَا مَا لَا يُتَوَسَّعُ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْمَعْمُولَاتِ .
وَكَانَ عُمْرُ
إِسْمَاعِيلَ يَوْمَئِذٍ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةٍ وَحِينَئِذٍ حَدَّثَ
إِبْرَاهِيمُ ابْنَهُ بِمَا رَآهُ فِي الْمَنَامِ ، وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ ، وَكَانَ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةَ ، وَلَكِنَّ الشَّرِيعَةَ لَمْ يُوحَ بِهَا إِلَيْهِ إِلَّا فِي الْيَقَظَةِ مَعَ رُؤْيَةِ
جِبْرِيلَ دُونَ رُؤْيَا الْمَنَامِ ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الرُّؤْيَا وَحْيًا لَهُ فِي غَيْرِ التَّشْرِيعِ مِثْلَ الْكَشْفِ عَلَى مَا يَقَعُ وَمَا أُعِدَّ لَهُ وَبَعْضِ مَا يَحِلُّ بِأُمَّتِهِ أَوْ بِأَصْحَابِهِ ، فَقَدْ رَأَى فِي الْمَنَامِ أَنَّهُ يُهَاجِرُ مِنْ
مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ ذَاتِ نَخْلٍ ، فَلَمْ يُهَاجِرْ حَتَّى أُذِنَ لَهُ فِي الْهِجْرَةِ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ
أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ، وَرَأَى بَقَرًا تُذْبَحُ فَكَانَ تَأْوِيلُ رُؤْيَاهُ مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ
أُحُدٍ ، وَلَقَدْ يُرَجَّحُ قَوْلُ الْقَائِلِينَ مِنَ السَّلَفِ بِأَنَّ الْإِسْرَاءَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقَظَةً وَبِالْجَسَدِ ، عَلَى قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ كَانَ فِي الْمَنَامِ وَبِالرُّوحِ خَاصَّةً ، فَإِنَّ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ الصَّلَاةَ فِي لَيْلَتِهِ ، وَالصَّلَاةُ ثَانِي أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ فَهِيَ حَقِيقَةٌ بِأَنْ تُفْرَضَ فِي أَكْمَلِ أَحْوَالِ الْوَحْيِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ حَالُ الْيَقَظَةِ ، فَافْهَمْ .
وَأَمْرُ اللَّهِ
إِبْرَاهِيمَ بِذَبْحِ وَلَدِهِ أَمْرُ ابْتِلَاءٍ .
وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهِ التَّشْرِيعَ إِذْ لَوْ كَانَ تَشْرِيعًا لَمَا نُسِخَ قَبْلَ الْعَمَلِ بِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفِيتُ الْحِكْمَةَ مِنَ التَّشْرِيعِ بِخِلَافِ أَمْرِ الِابْتِلَاءِ .
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الِابْتِلَاءِ إِظْهَارُ عَزْمِهِ وَإِثْبَاتُ عُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ ، فَإِنَّ الْوَلَدَ عَزِيزٌ عَلَى نَفْسِ الْوَالِدِ ، وَالْوَلَدُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ أَمَلُ الْوَالِدِ فِي مُسْتَقْبَلِهِ أَشَدُّ عِزَّةً عَلَى نَفْسِهِ لَا مَحَالَةَ ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ سَأَلَ وَلَدًا لِيَرِثَهُ نَسْلُهَ وَلَا يَرِثَهُ مَوَالِيهِ ، فَبَعْدَ أَنْ أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَهُ بِإِجَابَةِ سُؤْلِهِ وَتَرَعْرُعِ وَلَدِهِ أَمَرَهُ بِأَنْ يَذْبَحَهُ فَيَنْعَدِمَ نَسْلُهُ وَيَخِيبَ أَمَلُهُ وَيَزُولَ أُنْسُهُ وَيَتَوَلَّى بِيَدِهِ إِعْدَامَ أَحَبِّ النُّفُوسِ إِلَيْهِ ، وَذَلِكَ أَعْظَمُ الِابْتِلَاءِ . فَقَابَلَ أَمْرَ رَبِّهِ بِالِامْتِثَالِ وَحَصَلَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ مِنَ ابْتِلَائِهِ ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=106إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ .
[ ص: 151 ] وَإِنَّمَا بَرَزَ هَذَا الِابْتِلَاءُ فِي صُورَةِ الْوَحْيِ الْمَنَامِيِّ إِكْرَامًا
لِإِبْرَاهِيمَ عَنْ أَنْ يُزْعَجَ بِالْأَمْرِ بِذَبْحِ وَلَدِهِ بِوَحْيٍ فِي الْيَقَظَةِ لِأَنَّ رُؤَى الْمَنَامِ يَعْقُبُهَا تَعْبِيرُهَا ، إِذْ قَدْ تَكُونُ مُشْتَمِلَةً عَلَى رُمُوزٍ خَفِيَّةٍ ، وَفِي ذَلِكَ تَأْنِيسٌ لِنَفْسِهِ لِتَلَقِّي هَذَا التَّكْلِيفِ الشَّاقِّ عَلَيْهِ وَهُوَ ذَبْحُ ابْنِهِ الْوَحِيدِ .
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=102فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى فَاءُ تَفْرِيعٍ ، أَوْ هِيَ فَاءُ الْفَصِيحَةِ ، أَيْ إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى .
وَالنَّظَرُ هُنَا نَظَرُ الْعَقْلِ لَا نَظَرُ الْبَصَرِ ، فَحَقُّهُ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ وَلَكِنْ عَلَّقَهُ الِاسْتِفْهَامُ عَنِ الْعَمَلِ .
وَالْمَعْنَى : تَأَمَّلْ فِي الَّذِي تُقَابِلُ بِهِ هَذَا الْأَمْرَ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ لَمَّا تَعَلَّقَ بِذَاتِ الْغُلَامِ كَانَ لِلْغُلَامِ حَظٌّ فِي الِامْتِثَالِ ، وَكَانَ عَرْضُ
إِبْرَاهِيمَ هَذَا عَلَى ابْنِهِ عَرْضَ اخْتِيَارٍ لِمِقْدَارِ طَوَاعِيَتِهِ بِإِجَابَةِ أَمْرِ اللَّهِ فِي ذَاتِهِ لِتَحْصُلَ لَهُ بِالرِّضَى وَالِامْتِثَالِ مَرْتَبَةُ بَذْلِ نَفْسِهِ فِي إِرْضَاءِ اللَّهِ ، وَهُوَ لَا يَرْجُو مِنِ ابْنِهِ إِلَّا الْقَبُولَ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِصَلَاحِ ابْنِهِ ، وَلَيْسَ
إِبْرَاهِيمُ مَأْمُورًا بِذَبْحِ ابْنِهِ جَبْرًا ، بَلِ الْأَمْرُ بِالذَّبْحِ تَعَلَّقَ بِمَأْمُورَيْنِ : أَحَدُهُمَا بِتَلَقِّي الْوَحْيِ ، وَالْآخَرُ : بِتَبْلِيغِ الرَّسُولِ إِلَيْهِ ، فَلَوْ قَدَّرَ عِصْيَانَهُ لَكَانَ حَالُهُ فِي ذَلِكَ حَالَ ابْنِ
نُوحٍ الَّذِي أَبَى أَنْ يَرْكَبَ السَّفِينَةَ لَمَّا دَعَاهُ أَبُوهُ فَاعْتُبِرَ كَافِرًا .
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ " مَاذَا تَرَى " بِفَتْحِ التَّاءِ وَالرَّاءِ . وَقَرَأَ
حَمْزَةُ nindex.php?page=showalam&ids=15080وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ ، أَيْ مَاذَا تُرِينِي مِنَ امْتِثَالٍ أَوْ عَدَمِهِ .
وَحُكِيَ جَوَابُهُ فَقَالَ : "
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=102يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ " دُونَ عَطْفٍ ، جَرْيًا عَلَى حِكَايَةِ الْمُقَاوَلَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=30قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
وَابْتِدَاءُ الْجَوَابِ بِالنِّدَاءِ وَاسْتِحْضَارُ الْمُنَادَى بِوَصْفِ الْأُبُوَّةِ وَإِضَافَةُ الْأَبِ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُعَوَّضِ عَنْهَا التَّاءُ الْمُشْعِرُ تَعْوِيضُهَا بِصِيغَةِ تَرْقِيقٍ وَتَحَنُّنٍ .
وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الذَّبْحِ بِالْمَوْصُولِ وَهُوَ " مَا تُؤْمَرُ " دُونَ أَنْ يَقُولَ : اذْبَحْنِي ، يُفِيدُ وَحْدَهُ إِيمَاءً إِلَى السَّبَبِ الَّذِي جَعَلَ جَوَابَهُ امْتِثَالًا لِذَبْحِهِ .
[ ص: 152 ] وَحُذِفَ الْمُتَعَلِّقُ بِفِعْلِ " تُؤْمَرُ " لِظُهُورِ تَقْدِيرِهِ : أَيْ مَا تُؤْمَرُ بِهِ . وَبَقِيَ الْفِعْلُ كَأَنَّهُ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُتَعَدِّيَةِ ، وَهَذَا الْحَذْفُ يُسَمَّى بِالْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ ، كَقَوْلِ
عَمْرِو بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ :
أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذَا مَالٍ وَذَا نَشَبِ
وَصِيغَةُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ " افْعَلْ " مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْإِذْنِ .
وَعَدَلَ عَنْ أَنْ يُقَالَ : اذْبَحْنِي ، إِلَى
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=102افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْإِذْنِ وَتَعْلِيلِهِ ، أَيْ أَذِنْتُ لَكَ أَنْ تَذْبَحَنِي لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَكَ بِذَلِكَ ، فَفِيهِ تَصْدِيقُ أَبِيهِ وَامْتِثَالُ أَمْرِ اللَّهِ فِيهِ .
وَجُمْلَةُ " سَتَجِدُنِي " هِيَ الْجَوَابُ لِأَنَّ الْجُمَلَ الَّتِي قَبْلَهَا تَمْهِيدٌ لِلْجَوَابِ كَمَا عَلِمْتَ ، فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ حَثَّهُ عَلَى فِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ وَعَدَهُ بِالِامْتِثَالِ لَهُ وَبِأَنَّهُ لَا يَجْزَعُ وَلَا يَهْلَعُ بَلْ يَكُونُ صَابِرًا ، وَفِي ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ عِبْءِ مَا عَسَى أَنْ يَعْرِضَ لِأَبِيهِ مِنَ الْحُزْنِ لِكَوْنِهِ يُعَامِلُ وَلَدَهُ بِمَا يَكْرَهُ . وَهَذَا وَعْدٌ قَدْ وَفَّى بِهِ حِينَ أَمْكَنَ أَبَاهُ مِنْ رَقَبَتِهِ ، وَهُوَ الْوَعْدُ الَّذِي شَكَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى فِي قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=54وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ ، وَقَدْ قَرَنَ وَعْدَهُ بِ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ " اسْتِعَانَةً عَلَى تَحْقِيقِهِ .
وَفِي قَوْلِهِ " مِنَ الصَّابِرِينَ " مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي اتِّصَافِهِ بِالصَّبْرِ مَا لَيْسَ فِي الْوَصْفِ : بِصَابِرٍ ؛ لِأَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّهُ سَيَجِدُهُ فِي عِدَادِ الَّذِينَ اشْتَهَرُوا بِالصَّبْرِ وَعُرِفُوا بِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ
مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا وَعَدَ
الْخَضِرَ قَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=69سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا لِأَنَّهُ حُمِلَ عَلَى التَّصَبُّرِ إِجَابَةً لِمُقْتَرَحِ الْخَضِرِ .