و ( إذ ) ظرف متعلق ب " المرسلين " ، وإنما وقتت رسالته بالزمن الذي أبق فيه إلى الفلك لأن فعلته تلك كانت عندما أمره الله بالذهاب إلى نينوى لإبلاغ بني إسرائيل أن الله غضب عليهم لأنهم انحرفوا عن شريعتهم .
فحينما أوحى الله إليه بذلك عظم عليه هذا الأمر فخرج من بلده وقصد مرسى ( يافا ) ليذهب إلى مدينة ( ترشيش ) وهي طرطوسية على شاطئ بلاد الشام ، فهال [ ص: 173 ] البحر حتى اضطر أهل السفينة إلى تخفيف عدد ركابها فاستهموا على من يطرحونه من سفينتهم في البحر ، فكان يونس ممن خرج سهم إلقائه في البحر فالتقمه حوت عظيم ، وجرت قصته المذكورة في سورة الأنبياء ، فلما كان هروبه من كلفة الرسالة مقارنا لإرساله وقت بكونه من المرسلين .
و " أبق " مصدره إباق بكسر الهمزة وتخفيف الباء وهو فرار العبد من مالكه . وفعله كضرب وسمع .
والمراد هنا : أن يونس هرب من البلد الذي أوحي إليه فيه قاصدا بلدا آخر تخلصا من إبلاغ رسالة الله إلى أهل نينوى ، ولعله خاف بأسهم واتهم صبر نفسه على أذاهم المتوقع لأنهم كانوا من بني إسرائيل في حماية الآشوريين .
ففعل أبق هنا استعارة تمثيلية ، شبهت حالة خروجه من البلد الذي كلفه ربه فيه بالرسالة تباعدا من كلفة ربه بإباق العبد من سيده الذي كلفه عملا .
والفلك المشحون : المملوء بالراكبين ، وتقدم معناه في قصة نوح .
وساهم : قارع . وأصله مشتق من اسم السهم لأنهم كانوا يقترعون بالسهام وهي أعواد النبال وتسمى الأزلام .
وتفريع " فساهم " يؤذن بجمل محذوفة تقديرها : فهال البحر وخاف الراكبون الغرق فساهم . وهذا نظير التفريع في قوله تعالى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق ، والمذكور في كتاب يونان من كتب اليهود : أن بعضهم قال لبعض : هلم نلق قرعة لنعرف من هو سبب هذه البلية فألقوا قرعة فوقعت على يونس . وعن ابن عباس أن القرعة خرجت ثلاث مرات على ووهب بن منبه يونس .
وسنة الاقتراع في أسفار البحر كانت متبعة عند الأقدمين إذا ثقلت السفينة بوفرة الراكبين أو كثرة المتاع . وفيها قصة الحيلة التي ذكرها الصفدي في شرح الطغرائية : أن بعض الأصحاب يدعي أن مركبا فيه مسلمون وكفار [ ص: 174 ] أشرف على الغرق وأرادوا أن يرموا بعضهم إلى البحر ليخف المركب فينجو بعضهم ويسلم المركب فقالوا : نقترع فمن وقعت القرعة عليه ألقيناه . فنظر رئيس المركب إليهم وهم جالسون على هذه الصورة فقال : ليس هذا حكما مرضيا ، وإنما نعد الجماعة فمن كان تاسعا ألقيناه فارتضوا بذلك ، فلم يزل يعدهم ويلقي التاسع فالتاسع إلى أن ألقى الكفار وسلم المسلمون ، وهذه صورة ذلك ( وصور دائرة فيها علامات حمر وعلامات سود ، فالحمر للمسلمين ومنهم ابتداء العد وهو إلى جهة الشمال ) قال : ولقد ذكرتها لنور الدين علي بن إسماعيل الصفدي فأعجبته وقال : كيف أصنع بحفظ هذا الترتيب ؟ فقلت له : الضابط في هذا البيت تجعل حروفه المعجمة للكفار والمهملة للمسلمين وهو :
الله يقضي بكل يسر ويرزق الضيف حيث كانا
اهـ وكانت القرعة طريقا من طرق القضاء عند التباس الحق أو عند استواء عدد في استحقاق شيء . وقد تقدم في سورة آل عمران عند قوله وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم ، وهي طريقة إقناعية كان البشر يصيرون إليها لفصل التنازع ، يزعمون أنها دالة على إرادة الله تعالى عند الأمم المتدينة ، أو إرادة الأصنام عند الأمم التي تعبد الأصنام تمييز صاحب الحق عند التنازع .ولعلها من مخترعات الكهنة وسدنة الأصنام . فلما شاعت في البشر أقرتها الشرائع لما فيها من قطع الخصام والقتال ، ولكن الشرائع الحق لما أقرتها اقتصدت في استعمالها بحيث لا يصار إليها إلا عند التساوي في الحق وفقدان المرجح الذي هو مؤثر في نوع ما يختلفون فيه ، فهي من بقايا الأوهام . وقد اقتصرت الشريعة الإسلامية في اعتبارها على أقل ما تعتبر فيه ، مثل تعيين أحد الأقسام المتساوية لأحد المتقاسمين إذ تشاحوا في أحدها . قال ابن رشد في المقدمات : " والقرعة إنما جعلت تطييبا لأنفس المتقاسمين ، وأصلها قائم في كتاب الله لقوله تعالى في قصة يونس فساهم فكان من المدحضين " .
وعندي : أن ليس في الآية دليل على مشروعية القرعة في الفصل بين المتساويين لأنها لم تحك شرعا صحيحا كان قبل الإسلام إذ لا يعرف دين أهل السفينة الذين أجروا الاستهام على يونس ، على أن ما أجري الاستهام عليه قد أجمع المسلمون [ ص: 175 ] على أنه لا يجري في مثله استهام . فلو صح أن ذلك كان شرعا لمن قبلنا فقد نسخه إجماع علماء أمتنا .
قال ابن العربي : الاقتراع على إلقاء الآدمي في البحر لا يجوز ، فكيف المسلم ؟ فإنه لا يجوز فيمن كان عاصيا أن يقتل ولا يرمى به في النار والبحر . وإنما تجري عليه الحدود والتعزيز على مقدار جنايته . وظن بعض الناس أن البحر إذا هال على القوم فاضطروا إلى تخفيف السفينة أن القرعة تضرب عليهم فيطرح بعضهم تخفيفا ، وهذا فاسد ، فلا تخفف برمي بعض الرجال وإنما ذلك في الأموال ، وإنما يصبرون على قضاء الله .
وكانت في شريعة من قبلنا القرعة جائزة في كل شيء على العموم . وجاءت على الخصوص في ثلاثة مواطن : القرعة في شرعنا
الأول : . كان النبيء صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه
الثاني : . أن النبيء صلى الله عليه وسلم رفع إليه أن رجلا أعتق في مرض موته ستة أعبد لا مال له غيرهم ، فأقرع بين اثنين ( وهما معادل الثلث ) وأرق أربعة
الثالث : . أن رجلين اختصما إليه في مواريث درست ، فقال : اذهبا وتوخيا الحق واستهما وليحلل كل واحد منكما صاحبه
واختلف علماؤنا في القرعة بين الزوجات عند الغزو على قولين : الصحيح منهما الاقتراع ، وبه قال أكثر فقهاء الأمصار ، وذلك لأن السفر بجميعهن لا يمكن ، واختيار واحدة منهن إيثار ، فلم يبق إلا القرعة .
وقال القرافي في الفرق 240 : متى تعينت المصلحة أو الحق في جهة لا يجوز الاقتراع لأن في القرعة ضياع الحق ، ومتى تساوت الحقوق أو المصالح فهذا موضع القرعة دفعا للضغائن ، فهي مشروعة بين الخلفاء إذا استوت فيهم الأهلية للولاية ، والأيمة ، والمؤذنين ، إذا استووا ، والتقدم للصف الأول عند الازدحام ، وتغسيل الأموات عند تزاحم الأولياء وتساويهم ، وبين الحاضنات ، والزوجات في السفر [ ص: 176 ] والقسمة ، والخصوم عند الحكام ، في عتق العبيد إذا أوصى بعتقهم في المرض ولم يحملهم الثلث . وقاله الشافعي . وقال وابن حنبل أبو حنيفة : لا تجوز القرعة ( بينهم ) . ويعتق من كل واحد ثلثه ويستسعى في قيمته ووافق في قيمة الأرض . قال : والحق عندي أنها تجري في كل مشكل اهـ .
قلت : وفي الصحيح عن أم العلاء الأنصارية أنه لما اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين وقع في سهمهم الحديث . عثمان بن مظعون
وقال الجصاص : احتج بهذه الآية بعض الأغمار في إيجاب القرعة في العبيد يعتقهم المريض . وذلك إغفال منه لأن يونس ساهم في طرحه في البحر ، وذلك لا يجوز عند أحد من الفقهاء كما لا تجوز القرعة في قتل من خرجت عليه وفي أخذ ماله ، فدل على أنه خاص فيه .
وقال في سورة آل عمران : " ومن الناس من يحتج بإلقاء الأقلام في كفالة مريم على جواز القرعة في العبيد يعتقهم الرجل في مرضه ثم يموت ولا مال له غيرهم ، وليس هذا ( أي إلقاء الأقلام ) من عتق العبيد في شيء لأن الرضى بكفالة الواحد منهم مريم جائز في مثله ، ولا يجوز التراضي على استرقاق من حصلت له الحرية ، وقد كان عتق الميت نافذا في الجميع فلا يجوز نقله بالقرعة عن أحد منهم إلى غيره كما لا يجوز التراضي على نقل الحرية عمن وقعت عليه .
: جعل المرء داحضا ، أي : زالقا غير ثابت الرجلين ، وهو هنا استعارة للخسران والمغلوبية . والإدحاض
والالتقام : البلع . والحوت الذي التقمه : حوت عظيم يبتلع الأشياء ولا يعض بأسنانه ، ويقال : إنه الحوت الذي يسمى " بالين " بالإفرنجية .
والمليم : اسم فاعل من ألام ، إذا فعل ما يلومه عليه الناس لأنه جعلهم لائمين فهو ألامهم على نفسه .
وكان غرقه في البحر المسمى بحر الروم وهو الذي نسميه البحر الأبيض المتوسط ، ولم يكن بنهر دجلة كما غلط فيه بعض المفسرين .
[ ص: 177 ] وكان من المسبحين بقوله : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين كما في سورة الأنبياء ، فأنجاه الله بسبب تسبيحه وتوبته فقذفه الحوت من بطنه إلى البر بعد أن مكث في جوف الحوت ثلاث ليال ، وقيل : يوما وليلة ، وقيل : بضع ساعات .
ومعنى قوله " إلى يوم يبعثون " التأبيد بأن يميت الله الحوت حين ابتلاعه ويبقيهما في قعر البحر ، أو بأن يختطف الحوت في حجر في البحر أو نحوه فلا يطفو على الماء حتى يبعث يونس يوم القيامة من قعر البحر .