وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث مقول لقول محذوف دلت عليه صيغة الكلام ، والتقدير : وقلنا خذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث ، وهو قول غير القول المحذوف في قوله اركض برجلك لأن ذلك استجابة دعوة وهذا إفتاء برخصة ، وذلك له قصة ، وهذا له قصة أخرى أشارت إليها الآية إجمالا ولم يرد في تعيينها أثر صحيح ومجملها أن زوج أيوب حاولت عملا ففسد عليه صبره من استعانة ببعض الناس على مواساته فلما علم بذلك غضب وأقسم ليضربنها عددا من الضرب ثم ندم وكان محبا لها ، وكانت لائذة به في مدة مرضه فلما سري عنه أشفق على امرأته من ذلك ولم يكن في دينهم كفارة اليمين فأوحى الله إليه أن يضربها بحزمة فيها عدد من الأعواد بعدد الضربات التي أقسم عليها رفقا بزوجه لأجله وحفظا ليمينه من حنثه إذ لا يليق الحنث بمقام النبوءة . وليست هذه القضية ذات أثر في الغرض الذي سيقت لأجله قصة أيوب من الأسوة وإنما ذكرت هنا تكملة لمظهر بأيوب جزاء على صبره . لطف الله
ومعاني الآية ظاهرة في أن هذا الترخيص رفق بأيوب ، وأنه لم يكن مثله معلوما في الدين الذي يدين به أيوب إبقاء على تقواه ، وإكراما له لحبه زوجه ، ورفقا بزوجه لبرها به ، فهو رخصة لا محالة في حكم الحنث في اليمين .
فجاء علماؤنا ونظروا في الأصل المقرر في المسألة المفروضة في أصول الفقه وهي : أن شرع من قبلنا هل هو شرع لنا إذا حكاه القرآن أو السنة الصحيحة ، ولم يكن في شرعنا ما ينسخه من نص أو أصل من أصول الشريعة الإسلامية .
فأما الذين لم يروا أن وهم شرع من قبلنا شرع لنا من المالكية وجمهور الشافعية وجميع الظاهرية فشأنهم في هذا ظاهر ، وأما الذين أثبتوا أصل الاقتداء بشرع من قبلنا بقيوده المذكورة وهم أبو بكر الباقلاني مالك وأبو حنيفة [ ص: 274 ] فتخطوا للبحث في أن هذا الحكم الذي في هذه الآية هل يقرر مثله في فقه الإسلام في الإفتاء في الأيمان وهل يتعدى به إلى جعله أصلا للقياس في كل ضرب يتعين في الشرع له عدد إذا قام في المضروب عذر يقتضي الترخيص بعد البناء على إثبات القياس على الرخص ، وهل يتعدى به إلى جعله أصلا للقياس أيضا لإثبات أصل مماثل وهو التحيل بوجه شرعي للتخلص من واجب تكليف شرعي ، واقتحموا ذلك على ما في حكاية قصة والشافعي أيوب من إجمال لا يتبصر به الناظر في صفة يمينه ولا لفظه ولا نيته إذ ليس من مقصد القصة .
فأما في الأيمان فقد كفانا الله التكلف بأن شرع لنا كفارات الأيمان . وقال النبيء - صلى الله عليه وسلم - ، فصار ما في شرعنا ناسخا لما شرع إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وفعلت الذي هو خير لأيوب فلا حاجة إلى الخوض فيها ، ومذهب الحنفية العمل بذلك استنادا لكونه شرعا لمن قبلنا وهو قول الشافعي .
وقال مالك : هذه خاصة بأيوب أفتى الله بها نبيئا . وحكى القرطبي عن أنه خصه بما إذا حلف ولم تكن له نية كأنه أخرجه مخرج أقل ما يصدق عليه لفظ الضرب والعدد . الشافعي
وأما القياس على فتوى أيوب في كل ضرب معين بعدد في غير اليمين ، أي : في باب الحدود والتعزيرات فهو تطوح في القياس لاختلاف الجنس بين الأصل والفرع ، ولاختلاف مقصد الشريعة من الكفارات ومقصدها من الحدود والتعزيرات ، ولترتب المفسدة على إهمال الحدود والتعزيرات دون الكفارات . ولا شك أن مثل هذا التسامح في الحدود يفضي إلى إهمالها ومصيرها عبثا .
وما وقع في سنن أبي داود من حديث أبي أمامة الأنصار أن رجلا منهم كان مريضا مضنى فدخلت عليه جارية فهش لها فوقع عليها فاستفتوا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا : لو حملناه إليك لتفسخت عظامه ما هو إلا جلد على عظم فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذوا له مائة شمراخ فيضربوه بها ضربة واحدة . عن بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من
[ ص: 275 ] ورواه غير أبي داود بأسانيد مختلفة وعبارات مختلفة . وما هي إلا قصة واحدة فلا حجة فيه لأنه تطرقته احتمالات .
أولها : أن ذلك الرجل كان مريضا مضنى ولا يقام الحد على مثله .
الثاني : لعل المرض قد أخل بعقله إخلالا أقدمه على الزنى فكان المرض شبهة تدرأ الحد عنه .
الثالث : أنه خبر آحاد لا ينقض به التواتر المعنوي الثابت في إقامة الحدود .
الرابع : حمله على الخصوصية . ومذهب أنه يعمل بذلك في الحد للضرورة كالمرض وهو غريب لأن أحاديث النبيء - صلى الله عليه وسلم - وأقوال السلف متضافرة على أن الشافعي ، ولم يأمر النبيء - صلى الله عليه وسلم - بأن تضرب الحامل بشماريخ ، فماذا يفيد هذا الضرب الذي لا يزجر مجرما ، ولا يدفع مأثما ، وفي أحكام الجصاص عن المريض والحامل ينتظران في إقامة الحد عليهما حتى يبرأ أبي حنيفة مثل ما . وحكى للشافعي الخطابي أن أبا حنيفة ومالكا اتفقا على أنه لا حد إلا الحد المعروف . فقد اختلف النقل عن أبي حنيفة .