وافتتحت الجملة بأداة التنبيه تنويها بمضمونها لتتلقاه النفس بشراشرها وذلك هو ما رجح اعتبار الاستئناف فيها ، وجعل معنى التعليل حاصلا تبعا من ذكر إخلاص عام بعد إخلاص خاص وموردهما واحد .
واللام في لله الدين الخالص لام الملك الذي هو بمعنى الاستحقاق ، أي : لا يحق الدين الخالص ، أي : الطاعة غير المشوبة إلا له على نحو الحمد لله .
[ ص: 318 ] وتقديم المسند لإفادة الاختصاص ؛ فأفاد قوله لله الدين الخالص أنه مستحقه وأنه مختص به .
والدين : الطاعة كما تقدم . والخالص : السالم من أن يشوبه تشريك غيره في عبادته ، فهذا هو المقصود من الآية .
ومما يتفرع على معنى الآية : إخلاص المؤمن الموحد في عبادة ربه ، أي : أن يعبد الله لأجله ، أي : طلبا لرضاه وامتثالا لأمره وهو آيل إلى أحوال النية في العبادة المشار إليها بقول النبيء - صلى الله عليه وسلم - . إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه
وعرف الغزالي بأنه تجريد قصد التقرب إلى الله عن جميع الشوائب . الإخلاص
والإخلاص في العبادة أن يكون الداعي إلى الإتيان بالمأمور وإلى ترك المنهي إرضاء الله تعالى ، وهو معنى قولهم : لوجه الله ، أي : لقصد الامتثال بحيث لا يكون الحظ الدنيوي هو الباعث على العبادة مثل أن يعبد الله ليمدحه الناس بحيث لو تعطل المدح لترك العبادة . ولذا قيل : الرياء : الشرك الأصغر ، أي : إذا كان هو الباعث على العمل ، ومثل ذلك أن يقاتل لأجل الغنيمة فلو أيس منها ترك القتال ، فأما إن كان للنفس حظ عاجل وكان حاصلا تبعا للعبادة وليس هو المقصود فهو مغتفر وخاصة إذا كان ذلك لا تخلو عنه النفوس ، أو كان مما يعين على الاستزادة من العبادة .
وفي جامع العتبية في ما جاء من أن . حدث النية الصحيحة لا تبطلها الخطرة التي لا تملك العتبي عن عن عيسى بن دينار ابن وهب عن عطاء الخراساني أن قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنه ليس من معاذ بن جبل بني سلمة إلا مقاتل ، فمنهم من القتال طبيعته ، ومنهم من يقاتل رياء ، ومنهم من يقاتل احتسابا ، فأي هؤلاء الشهيد من أهل الجنة ؟ فقال : يا من قاتل على شيء من هذه الخصال أصل أمره أن تكون كلمة الله هي العليا فقتل فهو شهيد من أهل الجنة معاذ بن جبل .
[ ص: 319 ] قال ابن رشد في شرحه : هذا الحديث : فيه نص جلي على أن من كان أصل عمله لله وعلى ذلك عقد نيته لم تضره الخطرات التي تقع في القلب ولا تملك ، على ما قاله مالك خلاف ما ذهب إليه ربيعة ، وذلك أنهما سئلا عن ويكره أن يلقى في طريق السوق فأنكر ذلك الرجل يحب أن يلقى في طريق المسجد ربيعة ولم يعجبه أن يحب أحد أن يرى في شيء من أعمال الخير .
وقال مالك : إذا كان أول ذلك وأصله لله فلا بأس به إن شاء الله ؛ قال الله تعالى وألقيت عليك محبة مني وقال واجعل لي لسان صدق في الآخرين .
قال مالك ، وإنما هذا شيء يكون في القلب لا يملك وذلك وسوسة الشيطان ليمنعه من العمل فمن وجد ذلك فلا يكسله عن التمادي على فعل الخير ولا يؤيسه من الأجر وليدفع الشيطان عن نفسه ما استطاع ؛ أي : إذا أراد تثبيطه عن العمل ، ويجدد النية فإن هذا غير مؤاخذ به إن شاء الله اهـ .
وذكر قبل ذلك عن مالك أنه رأى رجلا من أهل مصر يسأل عن ذلك ربيعة . وذكر أن ربيعة أنكر ذلك . قال مالك : فقلت له ما ترى في التهجير إلى المسجد قبل الظهر ؟ قال : ما زال الصالحون يهجرون .
وفي جامع المعيار : سئل مالك عن الرجل يذهب إلى الغزو ومعه فضل مال ليصيب به من فضل الغنيمة ؛ أي : ( ليشتري من الناس ما صح لهم من الغنيمة ) فأجاب لا بأس به ونزع بآية التجارة في الحج قوله ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم وأن ذلك غير مانع ولا قادح في صحة العبادة إذا كان قصده بالعبادة وجه الله ولا يعد هذا تشريكا في العبادة لأن الله هو الذي أباح ذلك ورفع الحرج عن فاعله مع أنه قال فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا فدل أن هذا التشريك ليس بداخل بلفظه ولا بمعناه تحت آية الكهف اهـ .
وأقول : إن قصد إلى العبادة ليتقرب إلى الله فيسأله ما فيه صلاحه في الدنيا أيضا لا ضير فيه ، لأن تلك العبادة جعلت وسيلة للدعاء ونحوه ، وكل ذلك تقرب إلى الله تعالى ، وقد شرعت صلوات لكشف الضر وقضاء الحوائج مثل صلاة الاستخارة وصلاة الضر والحاجة ، ومن المغتفر أيضا أن يقصد العامل من عمله [ ص: 320 ] أن يدعو له المسلمون ويذكروه بخير . وفي هذا المعنى قال - رضي الله عنه - حين خروجه إلى غزوة عبد الله بن رواحة مؤتة ودعا له المسلمون حين ودعوه ولمن معه بأن يردهم الله سالمين :
لكنني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات فرع تقذف الزبدا أو طعنة من يدي حران مجهزة
بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا حتى يقولوا إذا مروا على جدثي
أرشدك الله من غاز وقد رشدا
وينبغي أن تعلم أن فضيلة الإخلاص في العبادة هي قضية أخص من قضية صحة العبادة وإجزائها في ذاتها إذ قد تعرو العبادة عن فضيلة الإخلاص وهي مع ذلك صحيحة مجزئة ، فللإخلاص أثر في تحصيل ثواب العمل وزيادته ولا علاقة له بصحة العمل .
وفي مفاتيح الغيب : وأما الإخلاص فهو أن يكون الداعي إلى الإتيان بالفعل أو الترك مجرد الانقياد ، فإن حصل معه داع آخر ، فإما أن يكون جانب الداعي إلى الانقياد راجحا على جانب الداعي المغاير ، أو معادلا له ، أو مرجوحا . وأجمعوا على أن المعادل والمرجوح ساقط ، وأما إذا كان الداعي إلى الطاعة راجحا على جانب الداعي الآخر فقد اختلفوا في أنه هل يفيد أو لا اهـ .
وذكر أبو إسحاق الشاطبي : أن ( أي : في كتاب النية من الربع الرابع من الإحياء ) يذهب إلى أن ما كان فيه داعي غير الطاعة مرجوحا أنه ينافي الإخلاص . وعلامته أن تصير الطاعة أخف على العبد بسبب ما فيها من غرض ، وأن الغزالي أبا بكر بن العربي ( أي : في كتاب سراج المريدين كما نقله في المعيار ) يذهب إلى أن ذلك لا يقدح في الإخلاص .
قال الشاطبي : وكان مجال النظر في المسألة يلتفت إلى انفكاك القصدين أو عدم انفكاكهما ، فالغزالي يلتفت إلى مجرد وجود اجتماع القصدين سواء كان القصدان مما يصح انفكاكهما أو لا ، وابن العربي يلتفت إلى وجه الانفكاك .
[ ص: 321 ] فهذه مسألة دقيقة ألحقناها بتفسير الآية لتعلقها بالإخلاص المراد في الآية ، وللتنبيه على التشابه العارض بين المقاصد التي تقارن قصد العبادة وبين إشراك المعبود في العبادة بغيره .