وقد جاء نظم الكلام على طريقة مبتكرة في الخبر المهتم به بأن يؤكد مضمونه الثابت للخبر عنه ، بإثبات نقيض أو ضد ذلك المضمون لضد المخبر عنه ليتقرر مضمون الخبر مرتين مرة بأصله ومرة بنقيضه أو ضده ، لضد المخبر عنه كقوله تعالى هذا وإن للطاغين لشر مآب عقب قوله هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب ويكثر أن يقع ذلك بعد الإتيان باسم الإشارة للخبر المتقدم كما في الآية المذكورة أو للمخبر عنه كما في هذه السورة في قوله آنفا أولئك الذين هداهم الله فإنه بعد أن أشير إلى الموصوفين مرتين فرع عليه بعده إثبات ضد حكمهم لمن هم متصفون بضد حالهم .
وبهذا يظهر حسن موقع الفاء لتفريع هذه الجملة على جملة [ ص: 369 ] أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب لأن التفريع يقتضي اتصالا وارتباطا بين المفرع والمفرع عليه وذلك كالتفريع في قول لبيد :
أفتلك أم وحشية مسبوعة خذلت وهادية الصوار قوامها
إذ فرع تشبيها على تشبيه لاختلاف المشبه بهما .وكلمة " العذاب " كلام وعيد الله إياهم بالعذاب في الآخرة .
ومعنى " حق " تحققت في الواقع ، أي : كانت كلمة العذاب المتوعد بها حقا غير كذب ، فمعنى " حق " هنا تحقق ، وحق كلمة العذاب عليهم ضد هدي الله الآخرين ، وكونهم في النار ضد كون الآخرين لهم البشرى ، وترتيب المتضادين جرى على طريقة شبه اللف والنشر المعكوس ، نظير قوله تعالى إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم إلى قوله ولهم عذاب عظيم بعد قوله والذين يؤمنون بما أنزل إليك إلى قوله أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون فإن قوله ختم الله على قلوبهم ضد لقوله أولئك على هدى من ربهم وقوله " ولهم عذاب عظيم " ضد قوله " وأولئك هم المفلحون " .
و " من " من قوله تعالى أفمن حق عليه كلمة العذاب روي عن أن المراد بها ابن عباس أبو لهب وولده ومن تخلف عن الإيمان من عشيرة النبيء - صلى الله عليه وسلم - فيكون " من " مبتدأ حذف خبره . والتقدير : تنقذه من النار ، كما دل عليه ما بعده وتكون جملة أفأنت تنقذ من في النار تذييلا ، أي : أنت لا تنقذ الذين في النار .
والهمزة للاستفهام الإنكاري ، والهمزة الثانية كذلك . وإحداهما تأكيد للأخرى التي قبلها للاهتمام بشأن هذا الاستفهام الإنكاري على نحو تكرير " أن " في قول قس بن ساعدة :
لقد علم الحي اليمانون أنني إذا قلت : أما بعد ، أني خطيبها
ويجوز أن تكون " من " الأولى موصولة مبتدأ وخبره أفأنت تنقذ من في النار وتكون الفاء في قوله أفأنت تنقذ من في النار مؤكدة للفاء الأولى في قوله " أفمن حق " إلخ ؛ فتكون الهمزة والفاء معا مؤكدتين للهمزة الأولى والفاء التي معها لاتصالهما ، ولأن جملة " أفأنت تنقذ " صادقة على ما صدقت عليه جملة أفمن حق عليه كلمة العذاب ويكون الاستفهام الإنكاري جاريا على غالب استعماله من توجهه إلى كلام لا شرط فيه .
وأصل الكلام على اعتبار " من " شرطية : أمن تحقق عليه كلمة العذاب في المستقبل ، فأنت لا تنقذه منه ؛ فتكون همزة أفأنت تنقذ من في النار للاستفهام الإنكاري ؛ وتكون همزة أفمن حق عليه كلمة العذاب افتتح بها الكلام المتضمن الإنكار للتنبيه من أول الأمر على أن الكلام يتضمن إنكارا ، كما أن الكلام الذي يشتمل على نفي قد يفتتحونه بحرف نفي قبل أن ينطقوا بالنفي كما في قول مسلم بن معبد الوالبي من بني أسد :
فلا والله لا يلفى لما بي ولا لما بهم أبدا دواء
وأصل الكلام على اعتبار " من " الأولى موصولة : الذين تحق عليهم كلمة العذاب أنت لا تنقذهم من النار ، فتكون الهمزة في قوله أفمن حق عليه كلمة العذاب للاستفهام الإنكاري وتكون همزة أفأنت تنقذ من في النار تأكيدا للهمزة الأولى .
و " من " من قوله " من في النار " موصولة .
و " من في النار " هم من حق عليهم كلمة العذاب لأن كلمة العذاب هي أن يكونوا من أهل النار فوقع إظهار في مقام الإضمار ، والأصل : " أفأنت تنقذه من النار " .
[ ص: 371 ] وفائدة هذا الإظهار تهويل حالتهم لما في الصلة من حرف الظرفية المصور لحالة إحاطة النار بهم ، أي : أفأنت تريد إنقاذهم من الوقوع في النار وهم الآن في النار لأنه محقق مصيرهم إلى النار ، فشبه تحقق الوقوع في المستقبل بتحققه في الحال . وقد صرح بمثل هذا الخبر المحذوف في قوله تعالى أفمن يلقى في النار خير أمن يأتي آمنا يوم القيامة في سورة فصلت ؛ وقوله أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم في سورة الملك .
والاستفهام تقريري كناية عن عدم التساوي بين هذا وبين المؤمن .
وكلمة " العذاب " هي كلام الله المقتضي أن الكافر في العذاب ، أي تقدير الله ذلك للكافر في وعيده المتكرر في القرآن . وتجريد فعل " حق " من تاء التأنيث مع أن فاعله مؤنث اللفظ وهو " كلمة " ، لأن الفاعل اكتسب التذكير مما أضيف هو إليه نظرا لإمكان الاستغناء عن المضاف بالمضاف إليه ، فكأنه قيل : أفمن حق عليه العذاب .
وفائدة إقحام " كلمة " الإشارة إلى أن ذلك أمر الله ووعيده .
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في " أفأنت تنقذ " مفيد لتقوي الحكم وهو إنكار أن يكون النبيء - صلى الله عليه وسلم - بتكرير دعوته يخلصهم من تحقق الوعيد أو يحصل لهم الهداية إذا لم يقدرها الله لهم .
والخطاب للنبيء - صلى الله عليه وسلم - تهوينا عليه بعض حرصه على تكرير دعوتهم إلى الإسلام ، وحزنه على إعراضهم وضلالهم ، وإلا فلم يكن النبيء - صلى الله عليه وسلم - بالذي يظن أنه ينقذهم من وعيد الله ، ولذلك اجتلب فعل الإنقاذ هنا تشبيها لحال النبيء - صلى الله عليه وسلم - في حرصه على هديهم وبلوغ جهده في إقناعهم بتصديق دعوته ، وحالهم في انغماسهم في موجبات وعيدهم بحال من يحاول إنقاذ ساقط في النار قد أحاطت النار بجوانبه استحقاقا قضى به من لا يرد مراده ، فحالهم تشبه حال وقوعهم في النار من الآن لتحقق وقوعه ، وحذف المركب الدال على الحالة المشبه بها ، ورمز إلى معناه بذكر شيء من ملائمات ذلك المركب المحذوف وهو فعل تنقذ من في النار الذي هو من ملائمات وقوعهم في النار على طريقة التمثيل بالمكنية ، أي : إجراء الاستعارة المكنية في المركب ، ويكون قوله تنقذ من في النار [ ص: 372 ] قرينة هذه المكنية وهو في ذاته استعارة تحقيقية كما في قوله تعالى ينقضون عهد الله .
وهذا مما أشار إليه الكشاف وبينه التفتزاني فيعد من مبتكرات دقائق أنظارهما ، وبه يتم تقسيم الاستعارة التمثيلية إلى قسمين : مصرحة ومكنية . وذلك كان مغفولا عنه في علم البيان وبهذا تعلم أن الإنقاذ أطلق على الإلحاح في الإنذار من إطلاق اسم المسبب على السبب ، وأن من في النار من هو صائر إلى النار ، فلا متمسك للمعتزلة في الاستدلال بالآية على نفي على أننا لو سلمنا أن الآية مسوقة في غرض الشفاعة فإنما نفت الشفاعة لأهل الشرك لأن من في النار يحتمل العهد وهم المتحدث عنهم في هذه الآية . ولا خلاف في أن المشركين لا شفاعة فيهم ؛ قال تعالى الشفاعة المحمدية لأهل الكبائر ، فما تنفعهم شفاعة الشافعين على أن المنفي هو أن يكون النبيء - صلى الله عليه وسلم - منقذا لمن أراد الله عدم إنقاذه ، فأما الشفاعة فهو سؤال الله أن ينقذه .
وقد اشتملت هذه الآية على نكت بديعة من الإعجاز إذ أفادت أن هذا الفريق من أهل الشرك الذين يكمن الكفر في قلوبهم حقت عليهم كلمة الله بتعذيبهم فهم لا يؤمنون ، وأن حالهم الآن كحال من وقع في النار فهو هالك لا محالة ، وحال النبيء - صلى الله عليه وسلم - في حرصه على هديهم كحال من رأى ساقطا في النار فاندفع بدافع الشفقة إلى محاولة إنقاذه ولكنه لا يستطيع ذلك ؛ فلذلك أنكرت شدة حرصه على تخليصهم فكان إيداع هذا المعنى في جملتين نهاية في الإيجاز مع قرنه بما دل عليه تأكيد الهمزة والفاء في الجملة الثانية من الإطناب في مقام الصراحة .
ثم بما أودع في هاتين الجملتين من الاستعارة التمثيلية العجيبة بطريق المكنية ومن الاستعارة المصرحة في قرينة المكنية .
وحاصل نظم هذا التركيب : أفمن حق عليه كلمة العذاب فهو في النار أفأنت تنقذه وتنقذ من في النار .
وقد أشار إلى هذه الحالة الممثلة في هذه الآية حديث أنه سمع النبيء [ ص: 373 ] صلى الله عليه وسلم يقول : أبي هريرة
. إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها فجعل ينزعهن ويغلبنه فيقتحمن فيها ، فأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها