لما أبلغهم الله من الموعظة لأقصى مبلغ ، ونصب لهم من الحجج أسطع حجة ، وثبت رسوله صلى الله عليه وسلم أرسخ تثبيت ، لا جرم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يوادعهم موادعة مستقرب النصر ، ويواعدهم ما أعد لهم من خسر .
وعدم عطف جملة قل هذه على جملة قل حسبي الله لدفع توهم أن يكون أمره قل حسبي الله لقصد إبلاغه إلى المشركين نظير ترك العطف في البيت المشهور في علم المعاني :
[ ص: 20 ]
وتظن سلمى أنني أبغي بها بدلا أراها في الضلال تهيم
لم يعطف جملة : أراها في الضلال ، لئلا يتوهم أنها معطوفة على جملة : أبغي بها بدلا ، ولأنها انتقال من غرض الدعوة والمحاجة إلى غرض التهديد .وابتدأ المقول بالنداء بوصف القوم لما يشعر به من الترقيق لحالهم والأسف على ضلالهم لأن كونهم قومه يقتضي أن لا يدخرهم نصحا .
والمكانة : المكان ، وتأنيثه روعي فيه معنى البقعة ، استعير للحالة المحيطة بصاحبها إحاطة المكان بالكائن فيه .
والمعنى : اعملوا على طريقتكم وحالكم من عداوتي ، وتقدم نظيره في سورة الأنعام .
وقرأ الجمهور مكانتكم بصيغة المفرد . وقرأ أبو بكر عن عاصم " مكاناتكم " بصيغة الجمع بألف وتاء .
وقال تعالى هنا من يأتيه عذاب يخزيه ليكون التهديد بعذاب خزي في الدنيا وعذاب مقيم في الآخرة .
فأما قوله في سورة الأنعام قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار فلم يذكر فيها العذاب لأنها جاءت بعد تهديدهم بقوله إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين .
وحذف متعلق إني عامل ليعم كل متعلق يصلح أن يتعلق بعامل مع الاختصار فإن مقابلته بقوله اعملوا على مكانتكم يدل على أنه أراد من إني عامل أنه ثابت على عمله في نصحهم ودعوتهم إلى ما ينجيهم . وأن حذف ذلك مشعر بأنه لا يقتصر على مقدار مكانته وحالته بل حاله تزداد كل حين قوة وشدة لا يعتريها تقصير ولا يثبطها إعراضهم ، وهذا من مستتبعات الحذف ولم ننبه عليه في سورة الأنعام وفي سورة هود .
و ( من ) استفهامية علقت فعل تعلمون عن العمل في مفعوليه .
[ ص: 21 ] والعذاب المخزي هو عذاب الدنيا . والمراد به هنا عذاب السيف يوم بدر . والعذاب المقيم هو عذاب الآخرة ، وإقامته خلوده . وتنوين عذاب في الموضعين للتعظيم المراد به التهويل .
وأسند فعل يأتيه إلى العذاب المخزي لأن الإتيان مشعر بأنه يفاجئهم كما يأتي الطارق . وكذلك إسناد فعل يحل إلى العذاب المقيم لأن الحلول مشعر بالملازمة والإقامة معهم ، وهو عذاب الخلود ، ولذلك يسمى منزل القوم حلة ، ويقال للقوم القاطنين غير المسافرين : هم حلال ، فكان الفعل مناسبا لوصفه بالمقيم .
وتعدية فعل يحل بحرف على للدلالة على تمكنه .