وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور تتصل هذه الجملة بقوله : فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ لما تضمنته هذه من التعريض بتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم على ما لاقاه من قومه كما علمت ، ويؤذن بهذا الاتصال أن هاتين الجملتين جعلتا آية واحدة هي ثامنة وأربعون في هذه السورة ، فالمعنى : لا يحزنك إعراضهم عن دعوتك فقد أعرضوا عن نعمتي وعن إنذاري بزيادة الكفر ، فالجملة معطوفة على جملة فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا وابتداء الكلام بضمير الجلالة المنفصل مسندا إليه فعل دون أن يقال : وإذا أذقنا الإنسان إلخ ، مع أن المقصود وصف هذا الإنسان بالبطر بالنعمة وبالكفر عند الشدة ، لأن المقصود من موقع هذه الجملة هنا تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عن جفاء قومه وإعراضهم ، فالمعنى : أن معاملتهم [ ص: 134 ] ربهم هذه المعاملة تسليك عن معاملتهم إياك على نحو قوله تعالى : يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك ، ولهذا لا تجد نظائر هذه الجملة في معناها مفتتحا بمثل هذا الضمير ؛ لأن موقع تلك النظائر لا تماثل موقع هذه وإن كان معناهما متماثلا ، فهذه الخصوصية خاصة بهذه الجملة .
ولكن نظم هذه الآية جاء صالحا لإفادة هذا المعنى ولإفادة معنى آخر مقارب له وهو أن يكون هذا حكاية خلق للناس كلهم مرتكز في الجبلة لكن مظاهره متفاوتة بتفاوت أفراده في التخلق بالآداب الدينية ، فيحمل الإنسان في الموضعين على جنس بني آدم ويحمل الفرح على مطلقه المقول عليه بالتشكيك حتى يبلغ مبلغ البطر ، وتحمل السيئة التي قدمتها أيديهم على مراتب السيئات إلى أن تبلغ مبلغ الإشراك ، ويحمل وصف ( كفور ) على ما يشمل اشتقاقه من الكفر بتوحيد الله ، والكفر بنعمة الله .
ولهذا اختلفت محامل المفسرين للآية . فمنهم من حملها على خصوص الإنسان الكافر بالله مثل الزمخشري والقرطبي والطيبي ، ومنهم من حملها على ما يعم أصناف الناس مثل الطبري والبغوي والنسفي وابن كثير . ومنهم من حملها على إرادة المعنيين على أن أولهما هو المقصود والثاني مندرج بالتبع وهذه طريقة البيضاوي وصاحب الكشف . ومنهم من عكس وهي طريقة الكواشي في تلخيصه .
وعلى الوجهين فالمراد بـ الإنسان في الموضع الأول والموضع الثاني معنى واحد وهو تعريف الجنس المراد به الاستغراق ، أي إذا أذقنا الناس ، وأن الناس كفورون ، ويكون استغراقا عرفيا أريد به أكثر جنس الإنسان في ذلك الزمان والمكان لأن أكثر نوع الإنسان يومئذ مشركون ، وهذا هو المناسب لقوله : فإن الإنسان كفور أي شديد الكفر قويه ، ولقوله : بما قدمت أيديهم أي من الكفر .
وإنما عدل عن التعبير بالناس إلى التعبير بالإنسان للإيماء إلى أن هذا الخلق المخبر به عنهم هو من أخلاق النوع لا يزيله إلا التخلق بأخلاق الإسلام فالذين لم [ ص: 135 ] يسلموا باقون عليه ، وذلك أدخل في التسلية لأن اسم الإنسان اسم جنس يتضمن أوصاف الجنس المسمى به على تفاوت في ذلك وذلك لغلبة الهوى . وقد تكرر ذلك في القرآن مرارا كقوله : إن الإنسان خلق هلوعا وقوله : إن الإنسان لربه لكنود وقوله : وكان الإنسان أكثر شيء جدلا . وتأكيد الخبر بحرف التأكيد لمناسبة التسلية بأن نزل السامع الذي لا يشك في وقوع هذا الخبر منزلة المتردد في ذلك لاستعظامه إعراضهم عن دعوة الخير فشبه بالمتردد على طريقة المكنية ، وحرف التأكيد من روادف المشبه به المحذوف .
والإذاقة : مجاز في الإصابة .
والمراد بالرحمة : أثر الرحمة ، وهو النعمة ، فالتقدير : وإنا إذا رحمنا الإنسان فأصبناه بنعمة ، بقرينة مقابلة الرحمة بالسيئة كما قوبلت بالضراء في قوله : ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته في سورة فصلت .
والمراد بالفرح : ما يشمل الفرح المجاوز حد المسرة إلى حد البطر والتجبر ، على نحو ما استعمل في آيات كثيرة مثل قوله تعالى : إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين لا الفرح الذي في مثل قوله تعالى : فرحين بما آتاهم الله من فضله .
وتوحيد الضمير في ( فرح ) لمراعاة لفظ الإنسان وإن كان معناه جمعا ، كقوله : فقاتلوا التي تبغي أي الطائفة التي تبغي ، فاعتد بلفظ طائفة دون معناه مع أنه قال قبله : ( اقتتلوا ) . ولذلك جاء بعده وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم بضميري الجماعة ثم عاد فقال : فإن الإنسان كفور .
واجتلاب ( إذا ) في هذا الشرط لأن شأن ( إذا ) أن تدل على تحقق كثرة وقوع شرطها ، وشأن ( إن ) أن تدل على ندرة وقوعه ، ولذلك اجتلب ( إن ) في قوله : وإن تصبهم سيئة لأن إصابتهم بالسيئة نادرة بالنسبة لإصابتهم بالنعمة على حد قوله تعالى : فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه .
[ ص: 136 ] ومعنى قوله : وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم تقدم بسطه عند قوله آنفا وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم .
والحكم الذي تضمنته جملة فإن الإنسان كفور هو المقصود من جملة الشرط كلها ، ولذلك أعيد حرف التأكيد فيها بعد أن صدرت به الجملة المشتملة على الشرط ليحيط التأكيد بكلتا الجملتين ، وقد أفاد ذلك أن من عوارض صفة الإنسانية عروض الكفر بالله لها ، لأن في طبع الإنسان تطلب مسالك النفع وسد منافذ الضر مما ينجر إليه من أحوال لا تدخل بعض أسبابها في مقدوره ، ومن طبعه النظر في الوسائل الواقية له بدلائل العقل الصحيح ، ولكن من طبعه تحريك خياله في تصوير قوى تخوله تلك الأسباب فإذا أملى عليه خياله وجود قوى متصرفة في النواميس الخارجة عن مقدوره خالها ضالته المنشودة ، فركن إليها وآمن بها وغاب عنه دليل الحق ، إما لقصور تفكيره عن دركه وانعدام المرشد إليه ، أو لغلبة هواه الذي يملي عليه عصيان المرشدين من الأنبياء والرسل والحكماء الصالحين إذ لا يتبعهم إلا القليل من الناس ولا يهتدي بالعقل من تلقاء نفسه إلا الأقل مثل الحكماء ، فغلب على نوع الإنسان الكفر بالله على الإيمان به كما بيناه آنفا في قوله : وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها .
ولذلك عقب هذا الحكم على النوع بقوله : لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء . ولم يخرج عن هذا العموم إلا الصالحون من نوع الإنسان على تفاوت بينهم في كمال الخلق وقد استفيد خروجهم من آيات كثيرة كقوله : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات .
وقد شمل وصف ( كفور ) ما يشمل كفران النعمة وهما متلازمان في الأكثر .