ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون
لما جرى ذكر يوم القيامة أعقب بإنذار الذين أنكروه من سوء عاقبتهم فيه . والمبطلون : الآتون بالباطل في معتقداتهم وأقوالهم وأعمالهم إذ الباطل ما ضاد الحق . والمقصود منه ابتداء هنا هو الشرك بالله فإنه أعظم الباطل ثم تجيء درجات الباطل متنازلة وما من درجة منها إلا وهي خسارة على فاعلها بقدر فعلته وقد أنذر الله الناس وهو العليم بمقادير تلك الخسارة .
" ويوم تقوم الساعة " ظرف متعلق بـ " يخسر " ، وقدم عليه للاهتمام به واسترعاء الأسماع لما يرد من وصف أحواله .
و " يومئذ " توكيد لـ " يوم تقوم الساعة " وتنوينه عوض عن المضاف إليه المحذوف لدلالة ما أضيف إليه " يوم " عليه ، أي يوم إذ تقوم الساعة يخسر المبطلون فالتأكيد بتحقيق مضمون الخبر ولتهويل ذلك اليوم .
[ ص: 367 ] والخطاب في ترى لكل من يصلح له الخطاب بالقرآن فلا يقصد مخاطب معين ، ويجوز أن يكون خطابا للرسول - صلى الله عليه وسلم - .
والمضارع في " ترى " مراد به الاستقبال فالمعنى : وترى يومئذ .
والأمة : الجماعة العظيمة من الناس الذين يجمعهم دين جاء به رسول إليهم .
و " جاثية " اسم فاعل من مصدر الجثو بضمتين وهو البروك على الركبتين باستئفاز ، أي بغير مباشرة المقعدة للأرض ، فالجاثي هو البارك المستوفز وهو هيئة الخضوع .
وظاهر كون كتابها مفردا غير معرف باللام أنه كتاب واحد لكل أمة فيقتضي أن يراد كتاب الشريعة مثل القرآن ، والتوراة ، والإنجيل ، وصحف إبراهيم وغير ذلك لا صحائف الأعمال ، فمعنى " تدعى إلى كتابها " تدعى لتعرض أعمالها على ما أمرت به في كتابها كما في الحديث : وقيل : أريد بقوله : " كتابها " كتاب تسجيل الأعمال لكل واحد ، أو مراد به الجنس وتكون إضافته إلى ضمير الأمة على إرادة التوزيع على الأفراد لأن لكل واحد من كل أمة صحيفة عمله خاصة به كما قال تعالى : القرآن حجة لك أو عليك اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ، وقال : ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه أي كل مجرم مشفق مما في كتابه ، إلا أن هذه الآية الأخيرة وقع فيها الكتاب معرفا باللام فقبل العموم . وأما آية الجاثية فعمومها بدلي بالقرينة . فالمراد : خصوص الأمم التي أرسلت إليها الرسل ولها كتب وشرائع لقوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا .
ومسألة مؤاخذة الأمم التي لم تجئها الرسل بخصوص جحد الإله أو الإشراك به مقررة في أصول الدين ، وتقدمت عند قوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا في سورة الإسراء .
وقرأ الجمهور كل أمة تدعى إلى كتابها برفع ( كل ) على أنه مبتدأ وتدعى [ ص: 368 ] خبر عنه والجملة استئناف بياني لأن جثو الأمة يثير سؤال سائل عما بعد ذلك الجثو .
وقرأه يعقوب بنصب " كل " على البدل من قوله وترى كل أمة . وجملة " تدعى " حال من " كل أمة " فأعيدت كلمة " كل أمة " دون اكتفاء بقوله " تدعى " أو يدعون للتهويل والدعاء إلى الكتاب بالأمم تجثو ثم تدعى كل أمة إلى كتابها فتذهب إليه للحساب ، أي يذهب أفرادها للحساب ولو قيل : وترى كل أمة جاثية تدعى إلى كتابها لأوهم أن الجثو والدعاء إلى الكتاب يحصلان معا مع ما في إعادة الخبر مرة ثانية من التهويل .
وجملة اليوم تجزون ما كنتم تعملون بدل اشتمال من جملة تدعى إلى كتابها بتقدير قول محذوف ، أي يقال لهم اليوم تجزون ، أي يكون جزاؤكم على وفق أعمالكم وجريها على وفق ما يوافق كتاب دينكم من أفعالكم في الحسنات والسيئات ، وهذا البدل وقع اعتراضا بين جملة وترى كل أمة جاثية وجملة فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات الآيات .
وجملة هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق من مقول القول المقدر ، وهي مستأنفة استئنافا بيانيا لتوقع سؤال من يقول منهم : ما هو طريق ثبوت أعمالها ؟
والإشارة إما إلى كتاب شريعة الأمة المدعوة ، وإما إلى كتب أفرادها على تأويل الكتاب بالجنس على الوجهتين المتقدمتين .
وإفراد ضمير " ينطق " على هذا الوجه مراعاة للفظ " كتابنا " فالمعنى هذه كتبنا تنطق عليكم بالحق .
وإضافة كتاب إلى ضمير الله تعالى بعد أن أضيف إلى كل أمة لاختلاف الملابسة ، فالكتاب يلابس الأمة لأنه جعل لإحصاء أعمالهم أو لأن ما كلفوا به مثبت فيه ، وإضافته إلى ضمير الله لأنه الآمر به .
وإسناد النطق إلى الكتاب مجاز عقلي وإنما تنطق بما في الكتاب ملائكة الحساب ، أو استعير النطق للدلالة نحو قولهم : نطقت الحال .
[ ص: 369 ] والمعنى : أن فيه شهادة عليهم بأن أعمالهم مخالفة لوصايا الكتاب أو بأنها مكتوبة في صحائف أعمالهم على التأويلين في المراد بالكتاب .
ولتضمن " ينطق " معنى ( يشهد ) عدي بحرف ( على ) .
ولما كان المقام للتهديد اقتصر فيه على تعدية " ينطق " بحرف ( على ) دون زيادة : ولكم ، إيثارا لجانب التهديد .
وجملة إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون استئناف بياني لأنهم إذا سمعوا هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق خطر ببالهم السؤال : كيف شهد عليهم الكتاب اليوم وهم قد عملوا الأعمال في الدنيا ، فأجيبوا بأن الله كان يأمر بنسخ ما يعملونه في الصحف في وقت عمله .
وإن حمل الكتاب على كتب الشريعة كانت جملة إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون تعليلا للجملة قبلها باعتبار تقييد النطق بأنه الحق ، أي لأن أعمالكم كانت محصاة مبين ما هو منها مخالف لما أمر به كتابهم .
والاستنساخ : استفعال من النسخ .
والنسخ : يطلق على كتابة ما يكتب على مثال مكتوب آخر قبله . ويسمى بالمعارضة أيضا . وظاهر الأساس أن هذا حقيقة معنى النسخ وأن قولهم : نسخت الشمس الظل مجاز . وكلام جمهور العلماء بخلافه كما يقوله علماء أصول الفقه في باب النسخ . وكلام الراغب يحتمل الإطلاقين ، فإذا درجت على كلام الجمهور فقد جعلت كتابة مكتوب على مثال مكتوب قبله كإزالة للمكتوب الأول لأن ذلك في الغالب يكون لقصد التعويض عن المكتوب الأول لمن ليس عنده أو لخشية ضياع الأصل . وعن أنه كان يقول : ألستم عربا وهل يكون النسخ إلا من كتاب . ابن عباس
وأما إطلاق النسخ على كتابة أنف ليست على مثال كتابة أخرى سبقتها فكلام في الأساس صريح في أنه من معاني النسخ حقيقة ، وهو ظاهر كلامه في الكشاف ، فيكون لفظ النسخ مشتركا في المعنيين بل ربما كان معنى [ ص: 370 ] مطلق الكتابة هو الأصل وكانت تسمية كتابة على مثل كتابة سابقة نسخا لأن ذلك كتابة وكلام صاحب اللسان وصاحب القاموس أن نقل الكتابة لا يسمى نسخا إلا إذا كان على مثال كتابة سابقة . الزمخشري
وهذا اختلاف معضل ، والأظهر ما ذهب إليه صاحب اللسان وصاحب القاموس فيجوز أن يكون السين والتاء في نستنسخ للمبالغة في الفعل مثل استجاب . ويجوز أن يكون السين والتاء للطلب والتكليف ، أي نكلف الملائكة نسخ أعمالكم ، وعلى هذا المحمل حمل المفسرون السين والتاء هنا أي للطلب ، ثم يجوز أن يكون النسخ على معنى نقل كتابة عن كتابة سابقة وبه فسر قال : إن الله وكل ملائكة ينسخون من أم الكتاب في رمضان كل ما سيكون من أعمال بني آدم ، ويجوز أن يكون النسخ بمعنى كتابة ما تعلمه الناس دون نقل عن أصل . ابن عباس
والمعنى : إنا كنا نكتب أعمالكم . وعن أنه قال : إن لله ملائكة ينزلون كل يوم بشيء يكتبون فيه أعمال بني آدم ومثله عن علي بن أبي طالب الحسن والسدي .
والنسخ هنا : الكتابة ، وإسناد فعل الاستنساخ إلى ضمير الله على هذا إسناد مجازي لأن الله أمر الحفظة بكتابة الأعمال .