[ ص: 52 ] والإمداد : إعطاء المدد وهو الزيادة من نوع نافع فيما زيد فيه ، أي : زدناهم على ما ذكر من النعيم والأكل والشرب الهنيء فاكهة ولحما مما يشتهون من الفواكه واللحوم التي يشتهونها ، أي : لايؤتى لهم بشيء لا يرغبون فيه فلكل منهم ما اشتهى .
وخص الفاكهة واللحم تمهيدا لقوله " يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم " منحهم الله في الآخرة لذة نشوة الخمر والمنادمة على شربها لأنها من أحسن اللذات فيما ألفته نفوسهم ، وكان أهل الترف في الدنيا إذا شربوا الخمر في الدنيا كسروا سورة حدتها في البطن بالشواء من اللحم قال النابغة يصف قرن الثور : سفود شرب نسوه عند مفتأد ويدفعون لذغ الخمر عن أفواههم بأكل الفواكه ويسمونها النقل ( بضم النون وفتحها ) ويكون من ثمار ومقاث .
ولذلك جيء بقوله يتنازعون حالا من ضمير الغائب في أمددناهم بفاكهة إلخ .
والتنازع أطلق على التداول والتعاطي . وأصله تفاعل من نزع الدلو من البئر عند الاستقاء ، فإن الناس كانوا إذا وردوا للاستقاء نزع أحدهم دلوه من الماء ثم ناول الدلو لمن حوله وربما كان الرجل القوي الشديد ينزع من البئر للمستقين كلهم يكفيهم تعب النزع ، ويسمى الماتح بمثناة فوقية .
وقد ذكر الله تعالى نزع موسى عليه السلام لابنتي شعيب لما رأى انقباضهما عن الاندماج في الرعاء . وذكر النبيء - صلى الله عليه وسلم - في رؤياه نزعه على القليب ثم نزع أبي بكر - رضي الله عنه - ثم نزع عمر - رضي الله عنه - . ثم استعير أو جعل مجازا عن المداولة والمعاورة في مناولة أكؤس الشراب ، قال الأعشى :
نازعتهم قضب الريحان متكئا وخمرة مزة راووقها خضل
وقيل : تنازعهم الكأس مجاذبة بعضهم كأس بعض إلى نفسه للمداعبة كما قال امرؤ القيس في المداعبة على الطعام : [ ص: 53 ]
فظل العذارى يرتمين بلحمها وشحم كهداب الدمقس المفتل
ويجوز أن يراد بالكأس الخمر ، وهو من إطلاق اسم المحل على الحال ، مثل قولهم : سال الوادي وكما قال الأعشى : نازعتهم قضب الريحان ( البيت السابق آنفا ) .
وجملة لا لغو فيها ولا تأثيم يجوز أن تكون صفة لكأس وضمير لا لغو فيها عائد إلى كأس ووصف الكأس ب لا لغو فيها ولا تأثيم .
إن فهم الكأس بمعنى الإناء المعروف فهو على تقدير : لا لغو ولا تأثيم لصاحبها ، فإن في للظرفية المجازية التي تؤول بالملابسة ، كقوله تعالى وجاهدوا في الله حق جهاده ، أي : جاهد ببرهما ، أو تؤول " في " بمعنى التعليم كقول النبيء - صلى الله عليه وسلم - وقول النبيء - صلى الله عليه وسلم - ففيهما ، أي : والديك فجاهد . دخلت امرأة النار في هرة حبستها حتى ماتت جوعا
وإن فهم الكأس مرادا به الخمر كانت " في " مستعارة للسببية ، أي : لا لغو يقع بسبب شربها . والمعنى على كلا الوجهين أنها لا يخالط شاربيها اللغو والإثم بالسباب والضرب ونحوه ، أي : أن الخمر التي استعملت الكأس لها ليست كخمور الدنيا ، ويجوز أن تكون جملة لا لغو فيها ولا تأثيم مستأنفة ناشئة عن جملة يتنازعون فيها كأسا ، ويكون ضمير " فيها " عائدا إلى جنات من قوله إن المتقين في جنات مثل ضمير " فيها كأسا " ، فتكون في الجملة معنى التذييل ؛ لأنه إذا انتفى اللغو والتأثيم عن أن يكونا في الجنة انتفى أن يكونا في كأس شرب أهل الجنة .
ومثل هذين الوجهين يأتي في قوله تعالى إن للمتقين مفازا حدائق وأعنابا [ ص: 54 ] إلى قوله لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا في سورة النبإ .
واللغو : سقط الكلام والهذيان الذي يصدر عن خلل العقل .
والتأثيم : ما يؤثم به فاعله شرعا أو عادة من فعل أو قول ، مثل الضرب والشتم وتمزيق الثياب وما يشبه أفعال المجانين من آثار العربدة مما لا يخلو عنه الندامى غالبا ، فأهل الجنة منزهون عن ذلك كله ؛ لأنهم من عالم الحقائق والكمالات ، فهم حكماء علماء ، وقد تمدح أصحاب الأحلام من أهل الجاهلية بالتنزه عن مثل ذلك ، ومنهم من اتقى ما يعرض من الفلتات فحرم على نفسه الخمر مثل قيس بن عاصم .
وقرأ الجمهور لا لغو فيها ولا تأثيم برفعهما على أن " لا " مشبهة بليس . وقرأه ابن كثير وأبو عمرو بفتحهما على أن " لا " مشبهة بإن وهما وجهان في نفي النكرة إذا كانت إرادة الواحد غير محتملة ومثله قولها في أم زرع : زوجي كليل تهامة لا حر ولا قر ولا مخافة ولا سآمة رويت النكرات الأربع بالرفع وبالنصب . حديث