عطف على ( امرأة فرعون ) ، أي وضرب الله مثلا للذين آمنوا مريم ابنة عمران ، فضرب مثلين في الشر ومثلين في الخير .
ومريم ابنة عمران تقدم الكلام على نسبها وكرامتها في سورة آل عمران وغيرها ، [ ص: 378 ] وقد ذكر الله اسمها في عدة مواضع من القرآن وقال ابن التلمساني في شرح الشفاء لعياض : لم يذكر الله امرأة في القرآن باسمها إلا مريم على أنها أمة الله إبطالا لعقائد النصارى .
والإحصان : جعل الشيء حصينا ، أي لا يسلك إليه . ومعناه : منعت فرجها عن الرجال .
وتفريع ( فنفخنا فيه من روحنا ) تفريع العطية على العمل لأجله . أي جزيناها على إحصان فرجها ، أي بأن كون الله فيه نبيئا بصفة خارقة للعادة فخلد بذلك ذكرها في الصالحات .
والنفخ : مستعار لسرعة إبداع الحياة في المكون في رحمها . وإضافة الروح إلى ضمير الجلالة لأن تكوين المخلوق الحي في رحمها كان دون الأسباب المعتادة ، أو أريد بالروح الملك الذي يؤمر بنفخ الأرواح في الأجنة ، فعلى الأول تكون ( من ) تبعيضية ، وعلى الثاني تكون ابتدائية ، وتقدم قوله تعالى ( فنفخنا فيها من روحنا ) في سورة الأنبياء .
وتصديقها : يقينها بأن ما أبلغ إليها الملك من إرادة الله حملها .
وكلمات ربها : هي الكلمات التي ألقاها إليها بطريق الوحي .
و ( كتابه ) يجوز أن يكون المراد به الإنجيل الذي جاء به ابنها عيسى وهو وإن لم يكن مكتوبا في زمن عيسى فقد كتبه الحواريون في حياة مريم .
ويجوز أن يراد ب ( كتابه ) ، أراده الله وقدره أن تحمل من دون مس رجل إياها من باب وكان كتابا مفعولا .
والقانت : المتمحض للطاعة .
يجوز أن يكون و ( من ) للابتداء .
والمراد بالقانتين : المكثرون من العبادة . والمعنى أنها كانت سليلة قوم صالحين ، أي فجاءت على طريقة أصولها في الخير والعفاف .
وهل ينبت الخطي إلا وشيجه
[ ص: 379 ] وهذا إيماء إلى تبرئتها مما رماها به القوم البهت .وهذا نظير قوله تعالى والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرءون مما يقولون .
ويجوز أن تجعل ( من ) للتبعيض ، أي هي بعض من قنت لله . وغلبت صيغة جمع الذكور ولم يقل : من القانتات ، جريا على طريقة التغليب وهو تخريج الكلام على مقتضى الظاهر . وهذه الآية مثال في علم المعاني .
ونكتته هنا الإشارة إلى أنها في عداد أهل الإكثار من العبادة وأن شأن ذلك أن يكون للرجال لأن نساء بني إسرائيل كن معفيات من عبادات كثيرة .
ووصف مريم بالموصول وصلته لأنها عرفت بتلك الصلة من قصتها المعروفة من تكرر ذكرها فيما نزل من القرآن قبل هذه السورة .
وفي ذكر ( القانتين ) إيماء إلى ما أوصى الله به أمهات المؤمنين بقوله تعالى ( ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين ) الآية .
وقرأ الجمهور ( وكتابه ) . وقرأه حفص وأبو عمرو ويعقوب ( وكتبه ) بصيغة الجمع ، أي آمنت بالكتب التي أنزلت قبل عيسى وهي التوراة والزبور وكتب الأنبياء من بني إسرائيل ، والإنجيل إن كان قد كتبه الحواريون في حياتها .