وإقحام كلمة ( اسم ) ؛ لأن المأمور به ذكر اللسان ، وهو جامع للتذكر بالعقل ؛ لأن الألفاظ تجري على حسب ما في النفس ، ألا ترى إلى قوله تعالى واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول .
والتبتل : شدة البتل ، وهو مصدر تبتل القاصر الذي هو مطاوع بتله فتبتل وهو هنا للمطاوعة المجازية يقصد من صيغتها المبالغة في حصول الفعل حتى كأنه فعله غيره به فطاوعه ، : الانقطاع ، وهو هنا انقطاع مجازي ، أي : تفرغ البال والفكر إلى ما يرضي الله ، فكأنه انقطع عن الناس وانحاز إلى جانب الله فعدي بـ ( إلى ) الدالة على الانتهاء ، قال والتبتل امرؤ القيس :
منارة ممسى راهب متبتل
والتبتيل : مصدر بتل المشدد الذي هو فعل متعد مثل التقطيع .[ ص: 266 ] وجيء بهذا المصدر عوضا عن التبتل للإشارة إلى أن حصول التبتل ، أي : الانقطاع يقتضي التبتيل أي : القطع . ولما كان التبتيل قائما بالمتبتل تعين أن تبتيله : قطعه نفسه عن غير من تبتل هو إليه ، فالمقطوع عنه هنا هو من عدا الله تعالى فالجمع بين ( تبتل ) و ( تبتيلا ) مشير إلى إراضة النفس على ذلك التبتل . وفيه مع ذلك وفاء برعي الفواصل التي قبله .
والمراد بالانقطاع المأمور به انقطاع خاص وهو الانقطاع عن الأعمال التي تمنعه من قيام الليل ومهام النهار في نشر الدعوة ومحاجة المشركين ولذلك قيل وتبتل إليه أي : إلى الله فكل عمل يقوم به النبيء - صلى الله عليه وسلم - من أعمال الحياة فهو لدين الله فإن طعامه وشرابه ونومه وشئونه للاستعانة على نشر دين الله . وكذلك منعشات الروح البريئة من الإثم مثل الطيب ، وتزوج النساء ، والأنس إلى أهله وأبنائه وذويه ، وقد قال . حبب إلي من دنياكم النساء والطيب
وليس هو التبتل المفضي إلى الرهبانية وهو الإعراض عن النساء وعن تدبير أمور الحياة ؛ لأن ذلك لا يلاقي صفة الرسالة .
وفي حديث سعد في الصحيح " التبتل ولو أذن له لاختصينا عثمان بن مظعون " يعني رد عليه استشارته في الإعراض عن النساء . رد رسول الله على
ومن أكبر التبتل إلى الله الانقطاع عن الإشراك ، وهو معنى الحنيفية ، ولذلك عقب قوله وتبتل إليه تبتيلا بقوله رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو .
وخلاصة المعنى : أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - مأمور أن لا تخلو أوقاته عن إقبال على عبادة الله ومراقبته والانقطاع للدعوة لدين الحق ، وإذ قد كان النبيء - صلى الله عليه وسلم - من قبل غير غافل عن هذا الانقطاع بإرشاد من الله كما ألهمه التحنث في غار حراء ثم بما أفاضه عليه من الوحي والرسالة . فالأمر في قوله واذكر اسم ربك وتبتل إليه مراد به الدوام على ذلك فإنه قد كان يذكر الله فيما قبل فإن في سورة القلم - وقد نزلت قبل المزمل - وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر على أن القرآن الذي أنزل أولا أكثره إرشاد للنبيء - صلى الله عليه وسلم - إلى طرائق دعوة الرسالة فلذلك كان غالب ما في السور الأول منه مقتصرا على سن التكاليف الخاصة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - .
[ ص: 267 ] ووصف الله بأنه رب المشرق والمغرب لمناسبة الأمر بذكره في الليل وذكره في النهار وهما وقتا ابتداء غياب الشمس وطلوعها ، وذلك يشعر بامتداد كل زمان منهما إلى أن يأتي ضده; فيصح أن يكون المشرق والمغرب جهتي الشروق والغروب فيكون لاستيعاب جهات الأرض ، أي : رب جميع العالم وذلك يشعر بوقتي الشروق والغروب .
ويصح أن يراد بهما وقتا الشروق والغروب أي : مبدأ ذينك الوقتين ومنتهاهما ، كما يقال : سبحوا الله كل مشرق شمس ، وكما يقال : صلاة المغرب .
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم وأبو جعفر برفع ( رب ) على أنه خبر لمبتدأ محذوف حذفا جرى على الاستعمال في مثله مما يسبق في الكلام حديث عنه . ثم أريد الإخبار عنه بخبر جامع لصفاته ، وهو من قبيل النعت المقطوع المرفوع بتقدير مبتدأ . وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ويعقوب وخلف بخفض ( رب ) على البدل من ( ربك ) .
وعقب وصف الله بـ رب المشرق والمغرب ، بالإخبار عنه أو بوصفه بأنه لا إله إلا هو ؛ لأن تفرده بالإلهية بمنزلة النتيجة لربوبية المشرق والمغرب فلما كانت ربوبيته للعالم لا ينازع فيها المشركون أعقبت بما يقتضي بقوله إبطال دعوى المشركين تعدد الآلهة لا إله إلا هو تعريضا بهم في أثناء الكلام وإن كان الكلام مسوقا إلى النبيء - صلى الله عليه وسلم - . ولذلك فرع عليه قوله فاتخذه وكيلا ، وإذا كان الأمر باتخاذه وكيلا مسببا عن كونه لا إله إلا هو كان ذلك في قوة النهي عن اتخاذ وكيل غيره ، إذ ليس غيره بأهل لاتخاذه وكيلا .
والوكيل : الذي يوكل إليه الأمور ، أي : يفوض إلى تصرفه ، ومن أهم التفويض أمر الانتصار لمن توكل عليه ، فإن النبيء - صلى الله عليه وسلم - لما بلغه قول المشركين فيه اغتم لذلك ، وقد روي أن ذلك سبب تزمله من موجدة الحزن فأمره الله بأن لا يعتمد إلا عليه ، وهذا تكفل بالنصر ولذلك عقب بقوله واصبر على ما يقولون .