عطف على سنقرئك فلا تنسى . وجملة إنه يعلم الجهر وما يخفى معترضة كما علمت . وهذا العطف من عطف الأعم على الأخص في المآل وإن كان مفهوم الجملة السابقة مغايرا لمفهوم التيسير ; لأن مفهومها الحفظ والصيانة ومفهوم المعطوفة تيسير الخير له .
والتيسير : جعل العمل يسيرا على عامله .
ومفعول فعل التيسير هو الشيء الذي يجعل يسيرا ، أي : غير صعب ويذكر مع المفعول الشيء المجعول الفعل يسيرا لأجله مجرورا باللام كقوله تعالى : ويسر لي أمري .
[ ص: 282 ] واليسرى : مؤنث الأيسر ، وصيغة فعلى تدل على قوة الوصف لأنها مؤنث أفعل .
والموصوف محذوف ، وتأنيث الوصف مشعر بأن الموصوف المحذوف مما يجري في الكلام على اعتبار اسمه مؤنثا بأن يكون مفردا فيه علامة تأنيث أو يكون جمعا إذ المجموع تعامل معاملة المؤنث . فكان الوصف المؤنث مناديا على تقدير موصوف مناسب للتأنيث في لفظه ، وسياق الكلام الذي قبله يهدي إلى أن يكون الموصوف المقدر معنى الشريعة ، فإن خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن مراعى فيه وصفه العنواني وهو أنه رسول ، فلا جرم أن يكون أول شئونه هو ما أرسل به وهو الشريعة .
وقوله : ونيسرك لليسرى إن حمل على ظاهر نظم الكلام وهو ما جرى عليه المفسرون ، فالتيسير مستعار للتهيئة والتسخير ، أي : قوة تمكينه صلى الله عليه وسلم من اليسرى وتصرفه فيها بما يأمر الله به ، أي : نهيئك للأمور اليسرى في أمر الدين وعواقبه من تيسير حفظ القرآن لك ، وتيسير الشريعة التي أرسلت بها ، وتيسير الخير لك في الدنيا والآخرة . وهذه الاستعارة تحسنها المشاكلة .
ومعنى اللام في قوله : لليسرى العلة ، أي : لأجل اليسرى ، أي : لقبولها ، ونحوه قول النبيء صلى الله عليه وسلم وتكون هذه الآية على مهيع قوله تعالى : كل ميسر لما خلق له فسنيسره لليسرى وقوله : فسنيسره للعسرى في سورة الليل .
ويجوز أن يجعل الكلام جاريا على خلاف مقتضى الظاهر بسلوك أسلوب القلب وأن الأصل : ونيسر لك اليسرى ، أي : نجعلها سهلة لك فلا تشق عليك فيبقى فعل نيسرك على حقيقته ، وإنما خولف عمله في مفعوله والمجرور المتعلق به على عكس الشائع في مفعوله والمجرور المتعلق به .
وفي وصفها بـ اليسرى إيماء إلى استتباب تيسره لها بما أنها جعلت يسرى ، فلم يبق إلا حفظه من الموانع التي يشق معها تلقي اليسرى .
فاشتمل الكلام على تيسيرين : تيسير ما كلف به النبيء صلى الله عليه وسلم ، أي : جعله يسيرا مع وفائه بالمقصود منه ، وتيسير النبيء صلى الله عليه وسلم للقيام بما كلف به .
[ ص: 283 ] ويوجه العدول على مقتضى ظاهر النظم إلى ما جاء النظم عليه ، بأن فيه تنزيل الشيء الميسر منزلة الشيء الميسر له والعكس للمبالغة في ثبوت الفعل للمفعول على طريقة القلب المقبول ، كقول العرب : عرضت الناقة على الحوض ، وقول العجاج :
ومهمه مغبرة أرجـاؤه كأن لون أرضه سماؤه
وقد ورد القلب في آيات من القرآن ومنها قوله تعالى : ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة ومنه القلب التشبيه المقلوب .
والمعنى : وعد الله إياه بأنه يسره لتلقي أعباء الرسالة فلا تشق عليه ولا تحرجه تطمينا له ، إذ كان في أول أمر إرساله مشفقا أن لا يفي بواجباتها ، أي أن الله جعله قابلا لتلقي الكمالات وعظائم تدبير الأمة التي من شأنها أن تشق على القائمين بأمثالها .
ومن آثار هذا التيسير ما ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرها ، وقوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه . إنما بعثتم ميسرين لا معسرين