إنه كان توابا
تذييل للكلام السابق كله وتعليل لما يقتضي التعليل فيه من الأمر باستغفار ربه باعتبار الصريح من الكلام السابق كما سيتبين لك .
وتواب : مثال مبالغة من تاب عليه . وفعل تاب المتعدي بحرف ( على ) يطلق بمعنى وفق للتوبة ، أثبته في اللسان والقاموس ، وهذا الإطلاق خاص بما أسند إلى الله .
وقد اشتملت الجملة على أربع مؤكدات هي : إن ، وكان ، وصيغة المبالغة في التواب ، وتنوين التعظيم فيه .
وحيث كان التوكيد بـ ( إن ) هنا غير مقصود به رد إنكار ولا إزالة تردد ، إذ لا يفرضان في جانب المخاطب - صلى الله عليه وسلم - فقد تمحض ( إن ) لإفادة الاهتمام بالخبر بتأكيده . وقد تقرر أن من شأن ( إن ) إذا جاءت على هذا الوجه أن تغني غناء فاء الترتيب والتسبب وتفيد التعليل وربط الكلام بما قبله كما تفيده الفاء ، وقد تقدم غير مرة ، منها عند قوله تعالى : إنك أنت العليم الحكيم في سورة البقرة ، فالمعنى : هو شديد القبول لتوبة عباده كثير قبوله إياها .
وإذ قد كان الكلام تذييلا وتعليلا للكلام السابق تعين أن حذف متعلق ( توابا ) يقدر بنحو : على التائبين . وهذا المقدر مراد به العموم ، وهو عموم [ ص: 597 ] مخصوص بالمشيئة تخصصه أدلة وصف الربوبية ، ولما ذكر دليل العموم عقب أمره بالاستغفار أفاد أنه إذا استغفره غفر له ، دلالة تقتضيها مستتبعات التراكيب ، فأفادت هذه الجملة تعليل الأمر بالاستغفار ; لأن الاستغفار طلب الغفر ، فالطالب يترقب إجابة طلبه ، وأما ما في الجملة من الأمر بالتسبيح والحمد فلا يحتاج إلى تعليل ; لأنهما إنشاء تنزيه وثناء على الله .
ومن وراء ذلك أفادت الجملة إشارة إلى وعد بحسن القبول عند الله تعالى حينما يقدم على العالم القدسي ، وهذا معنى كنائي ; لأن من عرف بكثرة قبول توبة التائبين شأنه أن يكرم وفادة الوافدين الذين سعوا جهودهم في مرضاته بمنتهى الاستطاعة ، أو هو مجاز بعلاقة اللزوم العرفي ; لأن منتهى ما يخافه الأحبة عند اللقاء مرارة العتاب ، فالإخبار بأنه تواب اقتضى أنه لا يخاف عتابا .
فهذه الجملة بمدلولها الصريح ومدلولها الكنائي أو المجازي ومستتبعاتها تعليل لما تضمنته الجملة التي قبلها من معنى صريح أو كنائي يناسبه التعليل بالتسبيح والحمد باعتبارهما تمهيدا للأمر بالاستغفار كما تقدم آنفا لا يحتاجان إلى التعليل ، أو يغني تعليل الممهد له بهما عن تعليلهما ، ولكنهما باعتبار كونهما رمزا إلى مداناة وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكون ما في قوله : إنه كان توابا من الوعد بحسن القبول تعليلا لمدلولهما الكنائي ، وأما الأمر بالاستغفار فمناسبة التعليل له بقوله : إنه كان توابا ناهضة باعتبار كلتا دلالتيه الصريحة والكنائية ، أي أنه متقبل استغفارك ومتقبلك بأحسن قبول ، شأن من عهد من الصفح والتكرم .
وفعل كان هنا مستعمل في لازم معنى الاتصاف بالوصف في الزمن الماضي ، وهو أن هذا الوصف ذاتي له لا يتخلف معموله عن عباده فقد دل استقراء القرآن على إخبار الله عن نفسه بذلك من مبدأ الخليقة قال تعالى : فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم .
ومقتضى الظاهر أن يقال : إنه كان غفارا ، كما في آية فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا فيجري الوصف على ما يناسب قوله ( واستغفره ) ، فعدل عن ذلك تلطفا مع النبيء - صلى الله عليه وسلم - بأن أمره بالاستغفار ليس مقتضيا إثبات ذنب له لما علمت آنفا من أن وصف ( توابا ) جاء من تاب عليه الذي يستعمل بمعنى وفقه [ ص: 598 ] للتوبة إيماء إلى أن أمره بالاستغفار إرشاد إلى ، فإنه لا يسأل عما يفعل بعباده ، لولا تفضله بما بين لهم من مراده ، ولأن وصف ( توابا ) أشد ملائمة لإقامة الفاصلة مع فاصلة ( أفواجا ) ; لأن حرف الجيم وحرف الباء كليهما حرف من الحروف الموصوفة بالشدة ، بخلاف حرف الراء فهو من الحروف التي صفتها بين الشدة والرخوة . مقام التأدب مع الله تعالى
وروي في الصحيح عن عائشة قالت : ( ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة بعد أن نزلت عليه سورة إذا جاء نصر الله والفتح إلا يقول : سبحانك ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي ، يتأول القرآن ) أي : يتأول الأمر في قوله : فسبح بحمد ربك واستغفره على ظاهره كما تأوله في مقام آخر على معنى اقتراب أجله - صلى الله عليه وسلم .