جملة لم يلد خبر ثان عن اسم الجلالة من قوله : الله الصمد أو حال من المبتدأ أو بدل اشتمال من جملة الله الصمد لأن من يصمد إليه لا يكون من حاله أن يلد ; لأن طلب الولد لقصد الاستعانة به في إقامة شئون الوالد وتدارك عجزه ، ولذلك استدل على إبطال قولهم اتخذ الله ولدا بإثبات أنه الغني في قوله تعالى : قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض فبعد أن أبطلت الآية الأولى من هذه السورة تعدد الإله بالأصالة والاستقلال ، أبطلت هذه الآية تعدد الإله بطريق تولد إله عن إله ; لأن المتولد مساو لما تولد عنه .
والتعدد بالتولد مساو في الاستحالة لتعدد الإله بالأصالة لتساوي ما يلزم على التعدد في كليهما من فساد الأكوان المشار إليه بقوله تعالى : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ( وهو برهان التمانع ) ، ولأنه لو تولد عن الله موجود آخر للزم انفصال جزء عن الله تعالى وذلك مناف للأحدية كما علمت آنفا ، وبطل اعتقاد المشركين من العرب أن الملائكة بنات الله تعالى فعبدوا الملائكة لذلك ; لأن النبوة للإله تقتضي إلهية الابن قال تعالى : وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل عباد مكرمون .
وجملة ولم يولد عطف على جملة لم يلد أي : ولم يلده غيره ، وهي بمنزلة الاحتراس سدا لتجويز أن يكون له والد ، فأردف نفي الولد بنفي الوالد ، وإنما قدم نفي الولد لأنه أهم ، إذ قد نسب أهل الضلالة الولد إلى الله تعالى ولم ينسبوا [ ص: 619 ] إلى الله والدا . وفيه الإيماء إلى أن من يكون مولودا مثل عيسى لا يكون إلها ; لأنه لو كان الإله مولودا لكان وجوده مسبوقا بعدم لا محالة وذلك محال ; لأنه لو كان مسبوقا بعدم لكان مفتقرا إلى من يخصصه بالوجود بعد العدم ، فحصل من مجموع جملة لم يلد ولم يولد إبطال أن يكون الله والدا لمولود ، أو مولودا من والد بالصراحة . وبطلت إلهية كل مولود بطريق الكناية فبطلت مثل عقيدة ( زرادشت ) الثانوية القائلة بوجود إلهين : إله الخير وهو الأصل ، وإله الشر وهو متولد عن إله الخير . لأن إله الخير وهو المسمى عندهم ( يزدان ) فكر فكرة سوء ، فتولد منه إله الشر المسمى عندهم ( أهرمن ) وقد أشار إلى مذهبهم العقائد المبنية على تولد الإله أبو العلاء بقوله :
قال أناس باطل زعمهم فراقبوا الله ولا تزعمن فكر ( يزدان ) على غرة
فصيغ من تفكيره ( أهرمن )
وبطلت النصارى بإلهية عيسى - عليه السلام - بتوهمهم أنه ابن الله وأن ابن الله لا يكون إلا إلها بأن الإله يستحيل أن يكون له ولد ، فليس عقيدة عيسى بابن الله ، وبأن الإله يستحيل أن يكون مولودا بعد عدم ، فالمولود المتفق على أنه مولود يستحيل أن يكون إلها ، فبطل أن يكون عيسى إلها .
فلما أبطلت الجملة الاسمية الأولى إلهية إله غير الله بالأصالة ، وأبطلت الجملة الثانية إلهية غير الله بالاستحقاق ، أبطلت هذه الجملة إلهية غير الله بالفرعية والتولد بطريق الكناية .
وإنما نفي أن يكون الله والدا وأن يكون مولودا في الزمن الماضي ; لأن عقيدة التولد ادعت وقوع ذلك في زمن مضى ، ولم يدع أحد أن الله سيتخذ ولدا في المستقبل .