nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=1nindex.php?page=treesubj&link=28975_19862يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء .
جاء الخطاب ب يا أيها الناس : ليشمل جميع أمة الدعوة الذين يسمعون القرآن يومئذ وفيما يأتي من الزمان . فضمير الخطاب في قوله خلقكم عائد إلى الناس المخاطبين بالقرآن ، أي لئلا يختص بالمؤمنين - إذ غير المؤمنين حينئذ هم كفار العرب - وهم الذين تلقوا دعوة الإسلام قبل جميع البشر لأن الخطاب جاء بلغتهم ، وهم المأمورون بالتبليغ لبقية الأمم ، وقد كتب النبيء - صلى الله عليه وسلم - كتبه
للروم وفارس ومصر بالعربية لتترجم لهم بلغاتهم . فلما كان ما بعد هذا النداء جامعا لما يؤمر به الناس بين مؤمن وكافر ، نودي جميع الناس ، فدعاهم الله إلى التذكر بأن أصلهم واحد ، إذ قال
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=1اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة دعوة تظهر فيها المناسبة بين وحدة النوع ووحدة الاعتقاد ،
nindex.php?page=treesubj&link=19862فالمقصود من التقوى في " اتقوا ربكم " اتقاء غضبه ، ومراعاة حقوقه ، وذلك حق توحيده والاعتراف له بصفات الكمال ، وتنزيهه عن الشركاء في الوجود والأفعال والصفات .
وفي هذه الصلة براعة استهلال مناسبة لما اشتملت عليه السورة من الأغراض الأصلية ، فكانت بمنزلة الديباجة .
وعبر ب " ربكم " ، دون الاسم العلم ، لأن في معنى الرب ما يبعث العباد على
[ ص: 215 ] الحرص في الإيمان بوحدانيته ، إذ الرب هو المالك الذي يرب مملوكه أي ، يدبر شئونه ، وليتأتى بذكر لفظ الرب طريق الإضافة الدالة على أنهم محقوقون بتقواه حق التقوى ، والدالة على أن بين الرب والمخاطبين صلة تعد إضاعتها حماقة وضلالا . وأما التقوى في قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=1واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام فالمقصد الأهم منها :
nindex.php?page=treesubj&link=19967_18032_19868تقوى المؤمن بالحذر من التساهل في حقوق الأرحام واليتامى من النساء والرجال . ثم جاء باسم الموصول " الذي خلقكم " للإيماء إلى وجه بناء الخبر لأن الذي خلق الإنسان حقيق بأن يتقى .
ووصل " خلقكم " بصلة
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=1من نفس واحدة إدماج للتنبيه على عجيب هذا الخلق وحقه بالاعتبار . وفي الآية تلويح للمشركين بأحقية اتباعهم دعوة الإسلام ، لأن الناس أبناء أب واحد ، وهذا الدين يدعو الناس كلهم إلى متابعته ولم يخص أمة من الأمم أو نسبا من الأنساب ، فهو جدير بأن يكون دين جميع البشر ، بخلاف بقية الشرائع فهي مصرحة باختصاصها بأمم معينة . وفي الآية تعريض للمشركين بأن أولى الناس بأن يتبعوه هو
محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنه من ذوي رحمهم . وفي الآية تمهيد لما سيبين في هذه السورة من الأحكام المرتبة على النسب والقرابة .
والنفس الواحدة : هي
آدم . والزوج :
حواء ، فإن
حواء أخرجت من
آدم من ضلعه ، كما يقتضيه ظاهر قوله منها .
و " من " تبعيضية . ومعنى التبعيض أن
حواء خلقت من جزء من
آدم . قيل : من بقية الطينة التي خلق منها
آدم . وقيل : فصلت قطعة من ضلعه وهو ظاهر الحديث الوارد في الصحيحين .
ومن قال : إن المعنى وخلق زوجها من نوعها لم يأت بطائل ، لأن ذلك لا يختص بنوع الإنسان فإن أنثى كل نوع هي من نوعه .
وعطف قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=1وخلق منها زوجها على
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=1خلقكم من نفس واحدة ، فهو صلة ثانية . وقوله " وبث منهما صلة ثالثة لأن الذي يخلق هذا الخلق العجيب جدير بأن
[ ص: 216 ] يتقى ، ولأن في معاني هذه الصلات زيادة تحقيق اتصال الناس بعضهم ببعض ، إذ الكل من أصل واحد ، وإن كان خلقهم ما حصل إلا من زوجين فكل أصل من أصولهم ينتمي إلى أصل فوقه .
وقد حصل من ذكر هذه الصلات تفصيل لكيفية خلق الله الناس من نفس واحدة . وجاء الكلام على هذا النظم توفية بمقتضى الحال الداعي للإتيان باسم الموصول ، ومقتضى الحال الداعي لتفصيل حالة الخلق العجيب . ولو غير هذا الأسلوب فجيء بالصورة المفصلة دون سبق إجمال ، فقيل : الذي خلقكم من نفس واحدة وبث منها رجالا كثيرا ونساء لفاتت الإشارة إلى الحالة العجيبة . وقد ورد في الحديث :
أن حواء خلقت من ضلع آدم ، فلذلك يكون حرف " من " في قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=1وخلق منها للابتداء ، أي أخرج خلق
حواء من ضلع
آدم . والزوج هنا أريد به الأنثى الأولى التي تناسل منها البشر ، وهي
حواء . وأطلق عليها اسم الزوج لأن الرجل يكون منفردا فإذا اتخذ امرأة فقد صارا زوجا في بيت ، فكل واحد منهما زوج للآخر بهذا الاعتبار ، وإن كان أصل لفظ الزوج أن يطلق على مجموع الفردين ، فإطلاق الزوج على كل واحد من الرجل والمرأة المتعاقدين تسامح صار حقيقة عرفية ، ولذلك استوى فيه الرجل والمرأة لأنه من الوصف بالجامد ، فلا يقال للمرأة زوجة ، ولم يسمع في فصيح الكلام ، ولذلك عده بعض أهل اللغة لحنا . وكان
nindex.php?page=showalam&ids=13721الأصمعي ينكره أشد الإنكار . قيل له يقول
nindex.php?page=showalam&ids=15871ذو الرمة :
أذو زوجة بالمصر أم ذو خصومة أراك لها بالبصرة العام ثاويا
فقال : إن
ذا الرمة طالما أكل المالح والبقل في حوانيت البقالين ، يريد أنه مولد .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14899الفرزدق :
وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي كساع إلى أسد الشرى يستبيلها
وشاع ذلك في كلام الفقهاء ، قصدوا به التفرقة بين الرجل والمرأة عند ذكر الأحكام ، وهي تفرقة حسنة . وتقدم عند قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=35وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة في سورة البقرة .
[ ص: 217 ] وقد شمل قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=1وخلق منها زوجها العبرة بهذا الخلق العجيب الذي أصله واحد ، ويخرج هو مختلف الشكل والخصائص ، والمنة على الذكران بخلق النساء لهم ، والمنة على النساء بخلق الرجال لهن ، ثم من على النوع بنعمة النسل في قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=1وبث منهما رجالا كثيرا ونساء مع ما في ذلك من الاعتبار بهذا التكوين العجيب .
والبث : النشر والتفريق للأشياء الكثيرة قال تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=101&ayano=4يوم يكون الناس كالفراش المبثوث .
ووصف الرجال ، وهو جمع ، بكثير ، وهو مفرد ، لأن " كثيرا " يستوي فيه المفرد والجمع ، وقد تقدم في قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=146وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير في سورة آل عمران واستغنى عن وصف النساء بكثير لدلالة وصف الرجال به مع ما يقتضيه فعل البث من الكثرة .
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=1nindex.php?page=treesubj&link=28975_19862يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً .
جَاءَ الْخِطَابُ بِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ : لِيَشْمَلَ جَمِيعَ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْقُرْآنَ يَوْمَئِذٍ وَفِيمَا يَأْتِي مِنَ الزَّمَانِ . فَضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ خَلَقَكُمْ عَائِدٌ إِلَى النَّاسِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ ، أَيْ لِئَلَّا يَخْتَصَّ بِالْمُؤْمِنِينَ - إِذْ غَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ حِينَئِذٍ هُمْ كُفَّارُ الْعَرَبِ - وَهُمُ الَّذِينَ تَلَقَّوْا دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ قَبْلَ جَمِيعِ الْبَشَرِ لِأَنَّ الْخِطَابَ جَاءَ بِلُغَتِهِمْ ، وَهُمُ الْمَأْمُورُونَ بِالتَّبْلِيغِ لِبَقِيَّةِ الْأُمَمِ ، وَقَدْ كَتَبَ النَّبِيءُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُتُبَهُ
لِلرُّومِ وَفَارِسَ وَمِصْرَ بِالْعَرَبِيَّةِ لِتُتَرْجَمَ لَهُمْ بِلُغَاتِهِمْ . فَلَمَّا كَانَ مَا بَعْدُ هَذَا النِّدَاءِ جَامِعًا لِمَا يُؤْمَرُ بِهِ النَّاسُ بَيْنَ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ ، نُودِيَ جَمِيعُ النَّاسِ ، فَدَعَاهُمُ اللَّهُ إِلَى التَّذَكُّرِ بِأَنَّ أَصْلَهُمْ وَاحِدٌ ، إِذْ قَالَ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=1اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ دَعْوَةً تَظْهَرُ فِيهَا الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ وَحْدَةِ النَّوْعِ وَوَحْدَةِ الِاعْتِقَادِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=19862فَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّقْوَى فِي " اتَّقُوا رَبَّكُمْ " اتِّقَاءُ غَضَبِهِ ، وَمُرَاعَاةُ حُقُوقِهِ ، وَذَلِكَ حَقُّ تَوْحِيدِهِ وَالِاعْتِرَافِ لَهُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ ، وَتَنْزِيهِهِ عَنِ الشُّرَكَاءِ فِي الْوُجُودِ وَالْأَفْعَالِ وَالصِّفَاتِ .
وَفِي هَذِهِ الصِّلَةِ بَرَاعَةُ اسْتِهْلَالٍ مُنَاسِبَةٌ لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ السُّورَةُ مِنَ الْأَغْرَاضِ الْأَصْلِيَّةِ ، فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الدِّيبَاجَةِ .
وَعَبَّرَ بِ " رَبَّكُمْ " ، دُونَ الِاسْمِ الْعَلَمِ ، لِأَنَّ فِي مَعْنَى الرَّبِّ مَا يَبْعَثُ الْعِبَادَ عَلَى
[ ص: 215 ] الْحِرْصِ فِي الْإِيمَانِ بِوَحْدَانِيَّتِهِ ، إِذِ الرَّبُّ هُوَ الْمَالِكُ الَّذِي يَرُبُّ مَمْلُوكَهُ أَيْ ، يُدَبِّرُ شُئُونَهُ ، وَلِيَتَأَتَّى بِذِكْرِ لَفْظِ الرَّبِّ طَرِيقُ الْإِضَافَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُمْ مَحْقُوقُونَ بِتَقْوَاهُ حَقَّ التَّقْوَى ، وَالدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْمُخَاطَبِينَ صِلَةً تُعَدُّ إِضَاعَتُهَا حَمَاقَةً وَضَلَالًا . وَأَمَّا التَّقْوَى فِي قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=1وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَّاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ فَالْمَقْصِدُ الْأَهَمُّ مِنْهَا :
nindex.php?page=treesubj&link=19967_18032_19868تَقْوَى الْمُؤْمِنِ بِالْحَذَرِ مِنَ التَّسَاهُلِ فِي حُقُوقِ الْأَرْحَامِ وَالْيَتَامَى مِنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ . ثُمَّ جَاءَ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ " الَّذِي خَلَقَكُمْ " لِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ لِأَنَّ الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ حَقِيقٌ بِأَنْ يُتَّقَى .
وَوَصْلُ " خَلَقَكُمْ " بِصِلَةِ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=1مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِدْمَاجٌ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى عَجِيبِ هَذَا الْخَلْقِ وَحَقِّهِ بِالِاعْتِبَارِ . وَفِي الْآيَةِ تَلْوِيحٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِأَحَقِّيَّةِ اتِّبَاعِهِمْ دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ ، لِأَنَّ النَّاسَ أَبْنَاءُ أَبٍ وَاحِدٍ ، وَهَذَا الدِّينُ يَدْعُو النَّاسَ كُلَّهُمْ إِلَى مُتَابَعَتِهِ وَلَمْ يَخُصَّ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ أَوْ نَسَبًا مِنَ الْأَنْسَابِ ، فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَكُونَ دِينُ جَمِيعِ الْبَشَرِ ، بِخِلَافِ بَقِيَّةِ الشَّرَائِعِ فَهِيَ مُصَرِّحَةٌ بِاخْتِصَاصِهَا بِأُمَمٍ مُعَيَّنَةٍ . وَفِي الْآيَةِ تَعْرِيضٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِأَنْ يَتَّبِعُوهُ هُوَ
مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ مِنْ ذَوِي رَحِمِهِمْ . وَفِي الْآيَةِ تَمْهِيدٌ لِمَا سَيُبَيَّنُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُرَتَّبَةِ عَلَى النَّسَبِ وَالْقَرَابَةِ .
وَالنَّفْسُ الْوَاحِدَةُ : هِيَ
آدَمُ . وَالزَّوْجُ :
حَوَّاءُ ، فَإِنَّ
حَوَّاءَ أُخْرِجَتْ مِنْ
آدَمَ مِنْ ضِلْعِهِ ، كَمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ قَوْلِهِ مِنْهَا .
وَ " مِنْ " تَبْعِيضِيَّةٌ . وَمَعْنَى التَّبْعِيضِ أَنَّ
حَوَّاءَ خُلِقَتْ مِنْ جُزْءٍ مِنْ
آدَمَ . قِيلَ : مِنْ بَقِيَّةِ الطِّينَةِ الَّتِي خُلِقَ مِنْهَا
آدَمُ . وَقِيلَ : فُصِلَتْ قِطْعَةٌ مِنْ ضِلْعِهِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي الصَّحِيحَيْنِ .
وَمَنْ قَالَ : إِنَّ الْمَعْنَى وَخَلَقَ زَوْجَهَا مِنْ نَوْعِهَا لَمْ يَأْتِ بِطَائِلٍ ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِنَوْعِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّ أُنْثَى كُلِّ نَوْعٍ هِيَ مِنْ نَوْعِهِ .
وَعُطِفَ قَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=1وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا عَلَى
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=1خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ، فَهُوَ صِلَةٌ ثَانِيَةٌ . وَقَوْلُهُ " وَبَثَّ مِنْهُمَا صِلَةٌ ثَالِثَةٌ لِأَنَّ الَّذِي يَخْلُقُ هَذَا الْخَلْقَ الْعَجِيبَ جَدِيرٌ بِأَنْ
[ ص: 216 ] يُتَّقَى ، وَلِأَنَّ فِي مَعَانِي هَذِهِ الصِّلَاتِ زِيَادَةَ تَحْقِيقِ اتِّصَالِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ ، إِذِ الْكُلُّ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ ، وَإِنْ كَانَ خَلْقُهُمْ مَا حَصَلَ إِلَّا مِنْ زَوْجَيْنِ فَكُلُّ أَصْلٍ مِنْ أُصُولِهِمْ يَنْتَمِي إِلَى أَصْلٍ فَوْقَهُ .
وَقَدْ حَصَلَ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الصِّلَاتِ تَفْصِيلٌ لِكَيْفِيَّةِ خَلْقِ اللَّهِ النَّاسَ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ . وَجَاءَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا النَّظْمِ تَوْفِيَةً بِمُقْتَضَى الْحَالِ الدَّاعِي لِلْإِتْيَانِ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ ، وَمُقْتَضَى الْحَالِ الدَّاعِي لِتَفْصِيلِ حَالَةِ الْخَلْقِ الْعَجِيبِ . وَلَوْ غُيِّرَ هَذَا الْأُسْلُوبُ فَجِيءَ بِالصُّورَةِ الْمُفَصَّلَةِ دُونَ سَبْقِ إِجْمَالٍ ، فَقِيلَ : الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَبَثَّ مِنْهَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً لَفَاتَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْحَالَةِ الْعَجِيبَةِ . وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ :
أَنَّ حَوَّاءَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعِ آدَمَ ، فَلِذَلِكَ يَكُونُ حَرْفُ " مِنْ " فِي قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=1وَخَلَقَ مِنْهَا لِلِابْتِدَاءِ ، أَيْ أَخْرَجَ خَلْقَ
حَوَّاءَ مِنْ ضِلَعِ
آدَمَ . وَالزَّوْجُ هُنَا أُرِيدَ بِهِ الْأُنْثَى الْأُولَى الَّتِي تَنَاسَلَ مِنْهَا الْبَشَرُ ، وَهِيَ
حَوَّاءُ . وَأُطْلِقَ عَلَيْهَا اسْمُ الزَّوْجِ لِأَنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ مُنْفَرِدًا فَإِذَا اتَّخَذَ امْرَأَةً فَقَدْ صَارَا زَوْجًا فِي بَيْتٍ ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا زَوْجٌ لِلْآخَرِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ لَفْظِ الزَّوْجِ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى مَجْمُوعِ الْفَرْدَيْنِ ، فَإِطْلَاقُ الزَّوْجِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ تَسَامُحٌ صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً ، وَلِذَلِكَ اسْتَوَى فِيهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ لِأَنَّهُ مِنَ الْوَصْفِ بِالْجَامِدِ ، فَلَا يُقَالُ لِلْمَرْأَةِ زَوْجَةٌ ، وَلَمْ يُسْمَعْ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ ، وَلِذَلِكَ عَدَّهُ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ لَحْنًا . وَكَانَ
nindex.php?page=showalam&ids=13721الْأَصْمَعِيُّ يُنْكِرُهُ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ . قِيلَ لَهُ يَقُولُ
nindex.php?page=showalam&ids=15871ذُو الرُّمَّةِ :
أَذُو زَوْجَةٍ بِالْمِصْرِ أَمْ ذُو خُصُومَةٍ أَرَاكَ لَهَا بِالْبَصْرَةِ الْعَامَ ثَاوِيَا
فَقَالَ : إِنَّ
ذَا الرُّمَّةِ طَالَمَا أَكَلَ الْمَالِحَ وَالْبَقْلَ فِي حَوَانِيتِ الْبَقَّالِينَ ، يُرِيدُ أَنَّهُ مُوَلَّدٌ .
وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14899الْفَرَزْدَقُ :
وَإِنَّ الَّذِي يَسْعَى لِيُفْسِدَ زَوْجَتِي كَسَاعٍ إِلَى أَسَدِ الشَّرَى يَسْتَبِيلُهَا
وَشَاعَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ ، قَصَدُوا بِهِ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ عِنْدَ ذِكْرِ الْأَحْكَامِ ، وَهِيَ تَفْرِقَةٌ حَسَنَةٌ . وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=35وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
[ ص: 217 ] وَقَدْ شَمِلَ قَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=1وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا الْعِبْرَةَ بِهَذَا الْخَلْقِ الْعَجِيبِ الَّذِي أَصْلُهُ وَاحِدٌ ، وَيَخْرُجُ هُوَ مُخْتَلِفَ الشَّكْلِ وَالْخَصَائِصِ ، وَالْمِنَّةُ عَلَى الذُّكْرَانِ بِخَلْقِ النِّسَاءِ لَهُمْ ، وَالْمِنَّةُ عَلَى النِّسَاءِ بِخَلْقِ الرِّجَالِ لَهُنَّ ، ثُمَّ مَنَّ عَلَى النَّوْعِ بِنِعْمَةِ النَّسْلِ فِي قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=1وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الِاعْتِبَارِ بِهَذَا التَّكْوِينِ الْعَجِيبِ .
وَالْبَثُّ : النَّشْرُ وَالتَّفْرِيقُ لِلْأَشْيَاءِ الْكَثِيرَةِ قَالَ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=101&ayano=4يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ .
وَوَصَفَ الرِّجَالَ ، وَهُوَ جَمْعٌ ، بِكَثِيرٍ ، وَهُوَ مُفْرَدٌ ، لِأَنَّ " كَثِيرًا " يَسْتَوِي فِيهِ الْمُفْرَدُ وَالْجَمْعُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=146وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَاسْتَغْنَى عَنْ وَصْفِ النِّسَاءِ بِكَثِيرٍ لِدَلَالَةِ وَصْفِ الرِّجَالِ بِهِ مَعَ مَا يَقْتَضِيهِ فِعْلُ الْبَثِّ مِنَ الْكَثْرَةِ .