استئناف ابتدائي للتعجيب من حال هؤلاء ، ناسب الانتقال إليه من مضمون جملة إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر . والموصول مراد به قوم معروفون وهم فريق من المنافقين الذين كانوا من اليهود وأظهروا الإسلام لقوله رأيت المنافقين يصدون ، ولذلك قال يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك .
وقد اختلفت الروايات في سبب نزول هذه الآية اختلافا متقاربا : فعن قتادة أن يهوديا اختصم مع منافق اسمه والشعبي بشر فدعا اليهودي المنافق إلى التحاكم عند النبيء - صلى الله عليه وسلم - لعلمه أنه لا يأخذ الرشوة ولا يجور في الحكم ، ودعا المنافق إلى التحاكم عند كاهن من جهينة كان بالمدينة .
[ ص: 103 ] وعن أن ابن عباس اليهودي دعا المنافق إلى التحاكم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن المنافق دعا إلى كعب بن الأشرف .
فأبى اليهودي وانصرفا معا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقضى لليهودي ، فلما خرجا ، قال المنافق : لا أرضى ، انطلق بنا إلى أبي بكر ، فحكم أبو بكر بمثل حكم رسول الله ، فقال المنافق : انطلق بنا إلى عمر ، فلما بلغ عمر ، وأخبره اليهودي الخبر وصدقه المنافق ، قال عمر : رويدكما حتى أخرج إليكما ، فدخل وأخذ سيفه ثم ضرب به المنافق حتى برد ، وقال : هكذا أقضي على من لم يرض بقضاء الله ورسوله ، فنزلت الآية .
جبريل : إن عمر فرق بين الحق والباطل فلقبه النبيء - صلى الله عليه وسلم - الفاروق . وقال
وقال : كان بين السدي قريظة والخزرج حلف ، وبين النضير والأوس حلف في الجاهلية ، وكانت النضير أكثر وأشرف ، فكانوا إذا قتل قرظي نضيريا قتل به وأخذ أهل القتيل دية صاحبهم بعد قتل قاتله ، وكانت الدية مائة وسق من تمر ، وإذا قتل نضيري قرظيا لم يقتل به وأعطى ديته فقط : ستين وسقا .
فلما أسلم نفر من قريظة والنضير قتل نضيري قرظيا واختصموا ، فقالت النضير : نعطيكم ستين وسقا كما كنا اصطلحنا في الجاهلية ، وقالت قريظة : هذا شيء فعلتموه في الجاهلية لأنكم كثرتم وقللنا فقهرتمونا ، ونحن اليوم إخوة وديننا ودينكم واحد ، فقال بعضهم وكان منافقا : انطلقوا إلى أبي بردة وكان أبو بردة كاهنا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون إليه فيه .
وقال المسلمون : لا بل ننطلق إلى النبيء - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله هذه الآية . وأبو بردة بدال بعد الراء على الصحيح ، وكذلك وقع في مفاتيح الغيب ، وفي الإصابة لابن حجر ، ووقع في كتب كثيرة بزاي بعد الراء وهو تحريف اشتبه ولم يكن بأبي برزة الأسلمي نضلة بن عبيد أبو برزة كاهنا قط . ونسب أبو بردة الكاهن بالأسلمي .
وذكر بعض المفسرين : أنه كان في جهينة . وبعضهم ذكر أنه كان بالمدينة ، وقال البغوي عن : كانت الطواغيت التي يتحاكمون إليها : واحد في جابر بن عبد الله جهينة وواحد في أسلم ، وفي كل حي واحد كهان .
وفي رواية عكرمة أن الذين عناهم الله تعالى ناس من أسلم تنافروا إلى أبي بردة الأسلمي ، وفي رواية قتادة : أن الآية نزلت في رجلين أحدهما اسمه بشر من الأنصار ، [ ص: 104 ] والآخر من اليهود تدارآ في حق ، فدعاه اليهودي إلى التحاكم عند النبيء - صلى الله عليه وسلم - لعلمه بأنه يقضي بالحق ، ودعاه الأنصاري إلى التحاكم للكاهن لأنه علم أنه يرتشي ، فيقضي له ، فنزلت فيهما هذه الآية .
وفي رواية مثل ما قال الشعبي قتادة ، ولكنه وصف الأنصاري بأنه منافق . وقال الكلبي عن أبي صالح عن أن الخصومة بين منافق ويهودي ، فقال اليهودي لننطلق إلى ابن عباس محمد وقال المنافق بل نأتي كعب بن الأشرف اليهودي وهو الذي سماه الله الطاغوت .
وصيغة الجمع في قوله الذين يزعمون مراد بها واحد . وجيء باسم موصول الجماعة لأن المقام مقام توبيخ ، كقولهم : ما بال أقوام يقولون كذا ، ليشمل المقصود ومن كان على شاكلته . والزعم : خبر كاذب ، أو مشوب بخطأ ، أو بحيث يتهمه الناس بذلك ، فإن الأعشى لما قال يمدح قيس بن معد يكرب الكندي :
ونبئت قيسا ولم أبله كما زعموا خير أهل اليمن
غضب قيس وقال : " وما هو إلا الزعم " وقال تعالى زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا ، ويقول المحدث عن حديث غريب فزعم فلان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال كذا ، أي لإلقاء العهدة على المخبر ، ومنه ما يقع في كتاب من قوله زعم سيبويه الخليل ، ولذلك قالوا : الزعم مطية الكذب .ويستعمل الزعم في الخبر المحقق بالقرينة ، كقوله :
زعم العواذل أنني في غمرة صدقوا ولكن غمرتي لا تنجلي
وقد كان الذين أرادوا التحاكم إلى الطاغوت من المنافقين ، كما هو الظاهر ، فإطلاق الزعم على إيمانهم ظاهر .
وعطف قوله وما أنزل من قبلك لأن هؤلاء المنافقين كانوا من اليهود ، وقد دخل المعطوف في حيز الزعم فدل على أن إيمانهم بما أنزل من قبل لم يكن مطردا ، فلذلك كان ادعاؤهم ذلك زعما ، لانتفاء إيمانهم بالتوراة في أحوال كثيرة مثل هذا ، إذ لو [ ص: 105 ] كانوا يؤمنون بها حقا ، لم يكونوا ليتحاكموا إلى الكهان ، وشريعة موسى - عليه السلام - تحذر منهم .
وقوله " يريدون " أي يحبون محبة تبعث على فعل المحبوب .
والطاغوت هنا هم الأصنام ، بدليل قوله وقد أمروا أن يكفروا به ، ولكن فسروه بالكاهن ، أو بعظيم اليهود ، كما رأيت في سبب نزول الآية . فإذا كان كذلك فهو إطلاق مجازي بتشبيه عظيم الكفر بالصنم المعبود لغلو قومه في تقديسه ، وإما لأن الكاهن يترجم عن أقوال الصنم في زعمه ، وقد تقدم اشتقاق الطاغوت عند قوله تعالى ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت من هذه السورة .
وإنما قال بعيدا ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا أي يحب ذلك ويحسنه لهم ، لأنه ألقى في نفوسهم الدعاء إلى تحكيم الكهان والانصراف عن حكم الرسول ، أو المعنى : يريد أن يضلهم في المستقبل بسبب فعلتهم هذه لولا أن أيقظهم الله وتابوا مما صنعوا .
والضلال البعيد هو الكفر ، ووصفه بالبعيد مجاز في شدة الضلال بتنزيله منزلة جنس ذي مسافة ، كان هذا الفرد منه بالغا غاية المسافة ، قال الشاعر :
ضيعت حزمي في إبعادي الأملا
وقوله وإذا قيل لهم تعالوا الآية أي إذا قيل لهم احضروا أو ايتوا ، فإن ( تعال ) كلمة تدل على الأمر بالحضور والإقبال ، فمفادها مفاد حرف النداء إلا أنها لا تنبيه فيها . وقد اختلف أيمة العربية في أنه فعل أو اسم فعل ، والأصح أنه فعل لأنه مشتق من مادة العلو .ولذلك قال الجوهري في الصحاح : والتعالي والارتفاع ، تقول منه ، إذا أمرت : تعال يا رجل ، ومثله في القاموس ، ولأنه تتصل به ضمائر الرفع ، وهو فعل مبني على الفتح على غير سنة فعل الأمر ، فذلك البناء هو الذي حدا فريقا من أهل العربية على القول بأنه اسم فعل ، وليس ذلك القول ببعيد ، ولم يرد عن العرب غير فتح اللام ، فلذلك كان كسر اللام في قول أبي فراس :
أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا تعالي أقاسمك الهموم تعالي
وفي الكشاف أن أهل مكة أي في زمان يقولون تعالي للمرأة . فذلك من اللحن الذي دخل في اللغة العربية بسبب انتشار الدخلاء بينهم . الزمخشري
ووجه اشتقاق تعال من مادة العلو أنهم تخيلوا المنادي في علو والمنادى " بالفتح " في سفل ، لأنهم كانوا يجعلون بيوتهم في المرتفعات لأنها أحصن لهم ، ولذلك كان أصله أن يدل على طلب حضور لنفع .
قال ابن عطية في تفسير قوله تعالى وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا في سورة المائدة : تعال : نداء ببر - هذا أصله - ثم استعمل حيث البر وحيث ضده .
وقال في تفسير آية النساء : وهي لفظة مأخوذة من العلو لما استعملت في دعاء الإنسان وجلبه صيغت من العلو تحسينا للأدب كما تقول : ارتفع إلى الحق ونحوه .
واعلم أن تعال لما كانت فعلا جامدا لم يصح أن يصاغ منه غير الأمر ، فلا تقول : تعاليت بمعنى حضرت ، ولا تنهى عنه فتقول : لا تتعال . قال في الصحاح : ولا يجوز أن يقال منه تعاليت ولا ينهى عنه .
وفي الصحاح عقبه وتقول : قد تعاليت وإلى أي شيء أتعالى يعني أنه يتصرف في خصوص جواب الطلب لمن قال لك تعال ، وتبعه في هذا صاحب اللسان وأغفل العبارة التي قبله .
وأما صاحب تاج العروس فربما أخطأ إذ قال : قال الجوهري : ولا يجوز أن يقال منه : تعاليت وإلى أي شيء أتعالى ولعل النسخة قد وقع فيها نقص أو خطأ من الناسخ لظنه في العبارة تكريرا ، وإنما نبهت على هذا لئلا تقع في أخطاء وحيرة .
و ( تعالوا ) مستعمل هنا مجازا ، إذ ليس ثمة حضور وإتيان ، فهو مجاز في تحكيم كتاب الله وتحكيم الرسول في حضوره ، ولذلك قال إلى ما أنزل الله إذ لا يحكم الله إلا بواسطة كلامه ، وأما تحكيم الرسول فأريد به تحكيم ذاته ؛ لأن القوم المخبر عنهم كانوا من المنافقين وهم بالمدينة في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
و ( صدودا ) مفعول مطلق للتوكيد ، ولقصد التوصل بتنوين " صدودا " لإفادة أنه تنوين تعظيم .