ولما لام الله بعض المجاهدين على ما صدر منهم من التعمق في الغاية من الجهاد ، عقب ذلك ببيان فضل المجاهدين كيلا يكون ذلك اللوم موهما انحطاط فضيلتهم في بعض أحوالهم ، على عادة القرآن في تعقيب النذارة بالبشارة دفعا لليأس من الرحمة عن أنفس المسلمين .
يقول العرب : " لا يستوي " " وليس سواء " بمعنى أن أحد المذكورين أفضل من الآخر . ويعتمدون في ذلك على القرينة الدالة على تعيين المفضل لأن من شأنه أن يكون أفضل . قال السموأل أو غيره :
فليس سواء عالم وجهول
وقال تعالى ليسوا سواء ، وقد يتبعونه بما يصرح بوجه نفي السوائية : إما لخفائه كقوله تعالى لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا .وقد يكون التصريح لمجرد التأكيد كقوله [ ص: 170 ] لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون . وإذ قد كان وجه التفاضل معلوما في أكثر مواقع أمثال هذا التركيب ، صار في الغالب أمثال هذا التركيب مستعملة في معنى الكناية ، وهو التعريض بالمفضول في تفريطه وزهده فيما هو خير مع المكنة منه ، وكذلك هو هنا لظهور أن القاعد عن الجهاد لا يساوي المجاهد في فضيلة نصرة الدين ، ولا في ثوابه على ذلك ، فتعين التعريض بالقاعدين وتشنيع حالهم .
وبهذا يظهر موقع الاستثناء بقوله غير أولي الضرر كيلا يحسب أصحاب الضرر أنهم مقصودون بالتحريض فيخرجوا مع المسلمين ، فيكلفوهم مؤونة نقلهم وحفظهم بلا جدوى ، أو يظنوا أنهم مقصودون بالتعريض فتنكسر لذلك نفوسهم ، زيادة على انكسارها بعجزهم ، ولأن في استثنائهم إنصافا لهم وعذرا بأنهم لو كانوا قادرين لما قعدوا ، فذلك الظن بالمؤمن ، ولو كان المقصود صريح المعنى لما كان للاستثناء موقع . فاحفظوا هذا فالاستثناء مقصود ، وله موقع من البلاغة لا يضاع ، ولو لم يذكر الاستثناء لكان تجاوز التعريض أصحاب الضرر معلوما من سياق الكلام ، فالاستثناء عدول عن الاعتماد على القرينة إلى التصريح باللفظ .
ويدل لهذا ما في الصحيحين ، أنه قال : نزل الوحي على رسول الله وأنا إلى جنبه ثم سري عنه فقال : اكتب : فكتبت في كتف ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ) - وخلف النبيء زيد بن ثابت ، - فقال : يا رسول الله ، لو أستطيع الجهاد لجاهدت ، فنزلت مكانها ابن أم مكتوم لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله الآية . عن
فابن أم مكتوم فهم المقصود من نفي الاستواء فظن أن التعريض يشمله وأمثاله ، فإنه من القاعدين ، ولأجل هذا الظن عدل عن حراسة المقام إلى صراحة الكلام ، وهما حالان متساويان في عرف البلغاء ، هما حال مراعاة خطاب الذكي وخطاب الغبي ، فلذلك لم تكن زيادة الاستثناء مفيتة مقتضى حال من البلاغة ، ولكنها معوضته بنظيره لأن السامعين أصناف كثيرة .
وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر ، وخلف ( غير ) بنصب الراء على الحال من القاعدون ، وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، ، والكسائي ويعقوب بالرفع على النعت لـ القاعدون .
[ ص: 171 ] وجاز في غير الرفع على النعت ، والنصب على الحال ، لأن القاعدون تعريفه للجنس فيجوز فيه مراعاة اللفظ ومراعاة المعنى .
والضرر : المرض والعاهة من عمى أو عرج أو زمانة ، لأن هذه الصيغة لمصادر الأدواء ونحوها ، وأشهر استعماله في العمى ، ولذلك يقال للأعمى : ضرير ، ولا يقال ذلك للأعرج والزمن ، وأحسب أن المراد في هذه الآية خصوص العمى وأن غيره مقيس عليه .
و الضرر مصدر ضرر - بكسر الراء - مثل مرض ، وهذه الزنة تجيء في العاهات ونحوها ، مثل عمي وعرج وحصر ، ومصدرها مفتوح العين مثل العرج ، ولأجل خفته بفتح العين امتنع إدغام المثلين فيه ، فقيل : ضرر بالفك ، وبخلاف الضر الذي هو مصدر ضره فهو واجب الإدغام إذ لا موجب للفك .
ولا نعرف في كلام العرب إطلاق الضرر على غير العاهات الضارة; وأما ما روي من حديث " " فهو نادر أو جرى على الإتباع والمزاوجة لاقترانه بلفظ " ضرار " وهو مفكك . وزعم لا ضرر ولا ضرار الجوهري أن ضرر اسم مصدر الضر ، وفيه نظر; ولم يحفظ عن غيره ولا شاهد عليه .
وقوله بأموالهم وأنفسهم لأن الجهاد يقتضي الأمرين : بذل النفس ، وبذل المال ، إلا أن الجهاد على الحقيقة هو بذل النفس في سبيل الله ولو لم ينفق شيئا ، بل ولو كان كلا على المؤمنين ، كما أن من بذل المال لإعانة الغزاة ، ولم يجاهد بنفسه ، لا يسمى مجاهدا وإن كان له أجر عظيم ، وكذلك من حبسه العذر وكان يتمنى زوال عذره واللحاق بالمجاهدين ، له فضل عظيم ، ولكن فضل الجهاد بالفعل لا يساويه فضل الآخرين .
وجملة فضل الله المجاهدين بيان لجملة لا يستوي القاعدون من المؤمنين .
وحقيقة الدرجة أنها جزء من مكان يكون أعلى من جزء آخر متصل به ، بحيث تتخطى القدم إليه بارتقاء من المكان الذي كانت عليه بصعود ، وذلك مثل درجة العلية ودرجة السلم .
والدرجة هنا مستعارة للعلو المعنوي كما في قوله تعالى وللرجال عليهن درجة . والعلو المراد هنا علو الفضل ووفرة الأجر .
[ ص: 172 ] وجيء بـ درجة بصيغة الإفراد ، وليس إفرادها للوحدة ، لأن درجة هنا جنس معنوي لا أفراد له ، ولذلك أعيد التعبير عنها في الجملة التي جاءت بعدها تأكيدا لها بصيغة الجمع بقوله درجات منه لأن الجمع أقوى من المفرد .
وتنوين درجة للتعظيم . وهو يساوي مفاد الجمع في قوله الآتي درجات منه .
وانتصب درجة بالنيابة عن المفعول المطلق المبين للنوع في فعل فضل إذ الدرجة هنا زيادة في معنى الفضل ، فالتقدير : فضل الله المجاهدين فضلا هو درجة ، أي درجة فضلا .
وجملة وكلا وعد الله الحسنى معترضة . وتنوين كلا تنوين عوض عن مضاف إليه ، والتقدير : وكل المجاهدين والقاعدين .
وعطف وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما على جملة فضل الله المجاهدين ، وإن كان معنى الجملتين واحدا باعتبار ما في الجملة الثانية من زيادة أجرا عظيما فبذلك غايرت الجملة المعطوفة الجملة المعطوف عليها مغايرة سوغت العطف . مع ما في إعادة معظم ألفاظها من توكيد لها .
والمراد بقوله المجاهدين المجاهدون بأموالهم وأنفسهم فاستغني عن ذكر القيد بما تقدم من ذكره في نظيره السابق . وانتصب أجرا عظيما على النيابة عن المفعول المطلق المبين للنوع لأن الأجر هو ذلك التفضيل ، ووصف بأنه عظيم .
وانتصب درجات على البدل من قوله أجرا عظيما ، أو على الحال باعتبار وصف درجات بأنها منه أي من الله .
وجمع درجات لإفادة تعظيم الدرجة لأن الجمع لما فيه من معنى الكثرة تستعار صيغته لمعنى القوة ، ألا ترى أن علقمة لما أنشد الحارث بن جبلة ملك غسان قوله يستشفع لأخيه شأس بن عبدة :
وفي كل حي قد خبطت بنعمة فحق لشأس من نداك ذنوب