nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=105nindex.php?page=treesubj&link=28975_29785_28861إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=106واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=107ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=108يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=109ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا .
[ ص: 191 ] اتصال هذه الآية بما قبلها يرجع إلى ما مضى من وصف أحوال المنافقين ومناصريهم ، وانتقل من ذلك إلى الاستعداد لقتال المناوين للإسلام من قوله يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا الآية ، وتخلل فيه من أحوال المنافقين في تربصهم بالمسلمين الدوائر ومختلف أحوال القبائل في علائقهم مع المسلمين ، واستطرد لذكر قتل الخطأ والعمد ، وانتقل إلى ذكر الهجرة ، وعقب بذكر صلاة السفر وصلاة الخوف ، عاد الكلام بعد ذلك إلى
nindex.php?page=treesubj&link=30563أحوال أهل النفاق .
والجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا .
وجمهور المفسرين على أن هاته الآية نزلت بسبب حادثة رواها
الترمذي حاصلها :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341575أن إخوة ثلاثة يقال لهم : بشر وبشير ومبشر ، أبناء أبيرق ، وقيل : أبناء طعمة بن أبيرق ، وقيل : إنما كان بشير أحدهم يكنى أبا طعمة ، وهم من بني ظفر من أهل المدينة ، وكان بشير شرهم ، وكان منافقا يهجو المسلمين بشعر يشيعه وينسبه إلى غيره ، وكان هؤلاء الإخوة في فاقة ، وكانوا جيرة لرفاعة بن زيد ، وكانت عير قد أقبلت من الشام بدرمك - وهو دقيق الحوارى أي السميذ - فابتاع منها رفاعة بن زيد حملا من درمك لطعامه ، وكان أهل المدينة يأكلون دقيق الشعير ، فإذا جاء الدرمك ابتاع منه سيد المنزل شيئا لطعامه فجعل الدرمك في مشربة له وفيها سلاح ، فعدى بنو أبيرق عليه فنقبوا مشربته وسرقوا الدقيق والسلاح ، فلما أصبح رفاعة ووجد مشربته قد سرقت أخبر ابن أخيه nindex.php?page=showalam&ids=361قتادة بن النعمان بذلك ، فجعل يتحسس ، فأنبئ بأن بني أبيرق استوقدوا في تلك الليلة نارا ، ولعله على بعض طعام رفاعة ، فلما افتضح بنو أبيرق طرحوا المسروق في دار أبي مليل الأنصاري . وقيل : في دار يهودي اسمه زيد بن السمين ، وقيل : لبيد بن سهل ، وجاء بعض بني ظفر إلى النبيء - صلى الله عليه وسلم - ، فاشتكوا إليه أن رفاعة وابن أخيه اتهما بالسرقة أهل بيت إيمان وصلاح ، قال قتادة : فأتيت رسول الله ، فقال لي عمدت إلى أهل بيت إسلام وصلاح فرميتهم بالسرقة على غير بينة . وأشاعوا في الناس أن المسروق في دار أبي مليل أو دار اليهودي . فما لبث أن نزلت هذه الآية ، وأطلع الله رسوله على جلية الأمر ، معجزة له ، حتى لا يطمع أحد في أن يروج على الرسول باطلا . هذا هو الصحيح في سوق هذا الخبر . ووقع في كتاب أسباب النزول
[ ص: 192 ] للواحدي ، وفي بعض روايات
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري سوق القصة ببعض مخالفة لما ذكرته : وأن
بني ظفر سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجادل عن أصحابهم كي لا يفتضحوا ويبرأ اليهودي ، وأن رسول الله هم بذلك ، فنزلت الآية .
وفي بعض الروايات أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لام اليهودي وبرأ المتهم ، وهذه الرواية واهية ، وهذه الزيادة خطأ بين من أهل القصص دون علم ولا تبصر بمعاني القرآن . والظاهر أن صدر الآية تمهيد للتلويح إلى القصة ، فهو غير مختص بها ، إذ ليس في ذلك الكلام ما يلوح إليها ، ولكن مبدأ التلويح إلى القصة من قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=107ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم .
وقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=105بما أراك الله الباء للآلة جعل ما أراه الله إياه بمنزلة آلة للحكم لأنه وسيلة إلى مصادفة العدل والحق ونفي الجور ، إذ لا يحتمل علم الله الخطأ . والرؤية في قوله أراك الله عرفانية ، وحقيقتها الرؤية البصرية ، فأطلقت على ما يدرك بوجه اليقين لمشابهته الشيء المشاهد . والرؤية البصرية تنصب مفعولا واحدا فإذ أدخلت عليها همزة التعدية نصبت مفعولين كما هنا ، وقد حذف المفعول الثاني لأنه ضمير الموصول ، فأغنى عنه الموصول ، وهو حذف كثير ، والتقدير : بما أراكه الله .
فكل ما جعله الله حقا في كتابه فقد أمر بالحكم به بين الناس ، وليس المراد أنه يعلمه الحق في جانب شخص معين بأن يقول له : إن فلانا على الحق ، لأن هذا لا يلزم اطراده ، ولأنه لا يلفى مدلولا لجميع آيات القرآن وإن صلح الحمل عليه في مثل هذه الآية ، بل المراد أنه أنزل عليه الكتاب ليحكم بالطرق والقضايا الدالة على وصف الأحوال التي يتحقق بها العدل فيحكم بين الناس على حسب ذلك ، بأن تندرج جزئيات أحوالهم عند التقاضي تحت الأوصاف الكلية المبينة في الكتاب ، مثل قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=4وما جعل أدعياءكم أبناءكم ، فقد أبطل حكم التبني الذي كان في الجاهلية ، فأعلمنا أن قول الرجل لمن ليس ولده : هذا ولدي ، لا يجعل للمنسوب حقا في ميراثه .
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يخطئ في إدراج الجزئيات تحت كلياتها ، وقد يعرض الخطأ لغيره ، وليس المراد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصادف الحق من غير وجوهه الجارية بين الناس ، ولذلك قال
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341576إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون [ ص: 193 ] ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بحق أخيه فلا يأخذه فإنما أقتطع له قطعة من نار .
وغير الرسول يخطئ في الاندراج ، ولذلك وجب بذل الجهد واستقصاء الدليل ، ومن ثم استدل علماؤنا بهذه الآية على
nindex.php?page=treesubj&link=22273وجوب الاجتهاد في فهم الشريعة .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب أنه قال لا يقولن أحد قضيت بما أراني الله تعالى فإن الله تعالى لم يجعل ذلك إلا لنبيئه وأما الواحد منا فرأيه يكون ظنا ولا يكون علما ، ومعناه هو ما قدمناه من عروض الخطأ في الفهم لغير الرسول دون الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
واللام في قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=105للخائنين خصيما لام العلة وليست لام التقوية . ومفعول خصيما محذوف دل عليه ذكر مقابله وهو للخائنين ، أي لا تكن تخاصم من يخاصم الخائنين ، أي لا تخاصم عنهم . فالخصيم هنا بمعنى المنتصر المدافع كقوله كنت أنا خصمه يوم القيامة . والخطاب للنبيء - صلى الله عليه وسلم - والمراد الأمة ، لأن الخصام عن الخائنين لا يتوقع من النبيء - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما المراد تحذير الذين دفعتهم الحمية إلى الانتصار لأبناء
أبيرق .
والأمر باستغفار الله جرى على أسلوب توجيه الخطاب إلى الرسول ، فالمراد بالأمر غيره ، أرشدهم إلى ما هو أنفع لهم وهو استغفار الله مما اقترفوه ، أو أراد :
nindex.php?page=treesubj&link=29492واستغفر الله للخائنين ليلهمهم إلى التوبة ببركة استغفارك لهم فذلك أجدر من دفاع المدافعين عنهم .
وهذا نظير قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=64ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله وليس المراد بالأمر استغفار النبيء لنفسه ، كما أخطأ فيه من توهم ذلك ، فركب عليه أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - خطر بباله ما أوجب أمره بالاستغفار ، وهو همه أن يجادل عن
بني أبيرق ، مع علمه بأنهم سرقوا ، خشية أن يفتضحوا ، وهذا من أفهام الضعفاء وسوء وضعهم الأخبار لتأييد سقيم أفهامهم .
والخطاب في قوله ولا تجادل للرسول ، والمراد نهي الأمة عن ذلك ، لأن مثله لا يترقب صدوره من الرسول - عليه الصلاة والسلام - كما دل عليه قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=109ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا .
[ ص: 194 ] و يختانون بمعنى يخونون ، وهو افتعال دال على التكلف والمحاولة لقصد المبالغة في الخيانة . ومعنى خيانتهم أنفسهم أنهم بارتكابهم ما يضر بهم كانوا بمنزلة من يخون غيره كقوله علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم . ولك أن تجعل أنفسهم هنا بمعنى بني أنفسهم ، أي بني قومهم ، كقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=85تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم ، وقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=61فسلموا على أنفسكم ، أي الذين يختانون ناسا من أهلهم وقومهم . والعرب تقول : هو تميمي من أنفسهم ، أي ليس بمولى ولا لصيق .
والمجادلة مفاعلة من الجدل ، وهو القدرة على الخصام والحجة فيه ، وهي منازعة بالقول لإقناع الغير برأيك ، ومنه سمي علم قواعد المناظرة والاحتجاج في الفقه علم الجدل ، وكان يختلط بعلم أصول الفقه وعلم آداب البحث وعلم المنطق .
ولم يسمع للجدل فعل مجرد أصلي ، والمسموع منه جادل لأن الخصام يستدعي خصمين . وأما قولهم : جدله فهو بمعنى غلبه في المجادلة ، فليس فعلا أصليا في الاشتقاق . ومصدر المجادلة : الجدال ، قال تعالى ولا جدال في الحج .
وأما الجدل بفتحتين فهو اسم المصدر ، وأصله مشتق من الجدل ، وهو الصرع على الأرض ، لأن الأرض تسمى الجدالة بفتح الجيم يقال : جدله فهو مجدول .
وجملة يستخفون من الناس بيان لـ يختانون . وجملة ولا يستخفون من الله حال ، وذلك هو محل الاستغراب من حالهم وكونهم يختانون أنفسهم . والاستخفاء من الله مستعمل مجازا في الحياء ، إذ لا يعتقد أحد يؤمن بالله أنه يستطيع أن يستخفي من الله .
وجملة وهو معهم حال من اسم الجلالة ، والمعية هنا معية العلم والاطلاع . و إذ يبيتون ظرف ، والتبييت جعل الشيء في البيات ، أي الليل ، مثل التصبيح ، يقال : بيتهم العدو وصبحهم العدو وفي القرآن : لنبيتنه وأهله أي لنأتينهم ليلا فنقتلهم . والمبيت هنا هو ما لا يرضي من القول ، أي دبروه وزوروه ليلا لقصد الإخفاء ، كقول العرب : هذا أمر قضي بليل ، أو تشور فيه بليل ، والمراد هنا تدبير مكيدتهم لرمي البرآء بتهمة السرقة .
[ ص: 195 ] وقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=109ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم استئناف أثاره قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=107ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم ، والمخاطب كل من يصلح للمخاطبة من المسلمين . والكلام جار مجرى الفرض والتقدير ، أو مجرى التعريض ببعض بني ظفر الذين جادلوا عن
بني أبيرق .
والقول في تركيب ها أنتم هؤلاء تقدم في سورة البقرة عند قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=85ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم ، وتقدم نظيره في آل عمران
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=119ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم .
و أم في قوله أم من يكون عليهم وكيلا منقطعة للإضراب الانتقالي . و من استفهام مستعمل في الإنكار .
والوكيل مضى الكلام عليه عند قوله تعالى وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل في سورة آل عمران .
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=105nindex.php?page=treesubj&link=28975_29785_28861إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=106وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=107وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=108يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهْوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=109هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا .
[ ص: 191 ] اتِّصَالُ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا يَرْجِعُ إِلَى مَا مَضَى مِنْ وَصْفِ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ وَمُنَاصِرِيهِمْ ، وَانْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى الِاسْتِعْدَادِ لِقِتَالِ الْمُنَاوِينَ لِلْإِسْلَامِ مِنْ قَوْلِهِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا الْآيَةَ ، وَتَخَلَّلَ فِيهِ مِنْ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ فِي تَرَبُّصِهِمْ بِالْمُسْلِمِينَ الدَّوَائِرَ وَمُخْتَلِفِ أَحْوَالِ الْقَبَائِلِ فِي عَلَائِقِهِمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ ، وَاسْتَطْرَدَ لِذِكْرِ قَتْلِ الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ ، وَانْتَقَلَ إِلَى ذِكْرِ الْهِجْرَةِ ، وَعَقَّبَ بِذِكْرِ صَلَاةِ السَّفَرِ وَصَلَاةِ الْخَوْفِ ، عَادَ الْكَلَامُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى
nindex.php?page=treesubj&link=30563أَحْوَالِ أَهْلِ النِّفَاقِ .
وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا .
وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَاتِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ حَادِثَةٍ رَوَاهَا
التِّرْمِذِيُّ حَاصِلُهَا :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341575أَنَّ إِخْوَةً ثَلَاثَةً يُقَالُ لَهُمْ : بِشْرٌ وَبَشِيرٌ وَمُبَشِّرٌ ، أَبْنَاءُ أُبَيْرِقٍ ، وَقِيلَ : أَبْنَاءُ طُعْمَةَ بْنِ أُبَيْرِقٍ ، وَقِيلَ : إِنَّمَا كَانَ بَشِيرٌ أَحَدُهُمْ يُكَنَّى أَبَا طُعْمَةَ ، وَهُمْ مِنْ بَنِي ظَفَرٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَكَانَ بَشِيرٌ شَرَّهُمْ ، وَكَانَ مُنَافِقًا يَهْجُو الْمُسْلِمِينَ بِشِعْرٍ يُشِيعُهُ وَيَنْسُبُهُ إِلَى غَيْرِهِ ، وَكَانَ هَؤُلَاءِ الْإِخْوَةُ فِي فَاقَةٍ ، وَكَانُوا جِيرَةً لِرِفَاعَةَ بْنِ زَيْدٍ ، وَكَانَتْ عِيرٌ قَدْ أَقْبَلَتْ مِنَ الشَّامِ بِدَرْمَكٍ - وَهُوَ دَقِيقُ الْحُوَّارَى أَيِ السَّمِيذُ - فَابْتَاعَ مِنْهَا رَفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ حِمْلًا مِنْ دَرْمَكٍ لِطَعَامِهِ ، وَكَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَأْكُلُونَ دَقِيقَ الشَّعِيرِ ، فَإِذَا جَاءَ الدَّرْمَكُ ابْتَاعَ مِنْهُ سَيِّدُ الْمَنْزِلِ شَيْئًا لِطَعَامِهِ فَجَعَلَ الدَّرْمَكَ فِي مَشْرَبَةٍ لَهُ وَفِيهَا سِلَاحٌ ، فَعَدَى بَنُو أُبَيْرِقٍ عَلَيْهِ فَنَقَبُوا مَشْرَبَتَهُ وَسَرَقُوا الدَّقِيقَ وَالسِّلَاحَ ، فَلَمَّا أَصْبَحَ رِفَاعَةُ وَوَجَدَ مَشْرَبَتَهُ قَدْ سُرِقَتْ أَخْبَرَ ابْنَ أَخِيهِ nindex.php?page=showalam&ids=361قَتَادَةَ بْنَ النُّعْمَانِ بِذَلِكَ ، فَجَعَلَ يَتَحَسَّسُ ، فَأُنْبِئَ بِأَنَّ بَنِي أُبَيْرِقٍ اسْتَوْقَدُوا فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ نَارًا ، وَلَعَلَّهُ عَلَى بَعْضِ طَعَامِ رِفَاعَةَ ، فَلَمَّا افْتَضَحَ بَنُو أُبَيْرِقٍ طَرَحُوا الْمَسْرُوقَ فِي دَارِ أَبِي مُلَيْلٍ الْأَنْصَارِيِّ . وَقِيلَ : فِي دَارِ يَهُودِيٍّ اسْمُهُ زَيْدُ بْنُ السَّمِينِ ، وَقِيلَ : لَبِيَدُ بْنُ سَهْلٍ ، وَجَاءَ بَعْضُ بَنِي ظَفَرٍ إِلَى النَّبِيءِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَاشْتَكَوْا إِلَيْهِ أَنَّ رِفَاعَةَ وَابْنَ أَخِيهِ اتَّهَمَا بِالسَّرِقَةِ أَهْلَ بَيْتِ إِيمَانٍ وَصَلَاحٍ ، قَالَ قَتَادَةُ : فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ لِي عَمَدْتَ إِلَى أَهْلِ بَيْتِ إِسْلَامٍ وَصَلَاحٍ فَرَمَيْتَهُمْ بِالسَّرِقَةِ عَلَى غَيْرِ بَيِّنَةٍ . وَأَشَاعُوا فِي النَّاسِ أَنَّ الْمَسْرُوقَ فِي دَارِ أَبِي مُلَيْلٍ أَوْ دَارِ الْيَهُودِيِّ . فَمَا لَبِثَ أَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ، وَأَطْلَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ عَلَى جَلِيَّةِ الْأَمْرِ ، مُعْجِزَةً لَهُ ، حَتَّى لَا يَطْمَعَ أَحَدٌ فِي أَنْ يُرَوِّجَ عَلَى الرَّسُولِ بَاطِلًا . هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي سَوْقِ هَذَا الْخَبَرِ . وَوَقَعَ فِي كِتَابِ أَسْبَابِ النُّزُولِ
[ ص: 192 ] لِلْوَاحِدِيِّ ، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطَّبَرَيِّ سَوْقُ الْقِصَّةِ بِبَعْضِ مُخَالَفَةٍ لِمَا ذَكَرْتُهُ : وَأَنَّ
بَنِي ظَفَرٍ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُجَادِلَ عَنْ أَصْحَابِهِمْ كَيْ لَا يَفْتَضِحُوا وَيَبْرَأَ الْيَهُودِيُّ ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ هَمَّ بِذَلِكَ ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ .
وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَامَ الْيَهُودِيَّ وَبَرَّأَ الْمُتَّهَمَ ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ وَاهِيَةٌ ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ خَطَأٌ بَيِّنٌ مِنْ أَهْلِ الْقَصَصِ دُونَ عِلْمٍ وَلَا تَبَصُّرٍ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ . وَالظَّاهِرُ أَنَّ صَدْرَ الْآيَةِ تَمْهِيدٌ لِلتَّلْوِيحِ إِلَى الْقِصَّةِ ، فَهُوَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِهَا ، إِذْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ الْكَلَامِ مَا يُلَوِّحُ إِلَيْهَا ، وَلَكِنَّ مَبْدَأَ التَّلْوِيحِ إِلَى الْقِصَّةِ مِنْ قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=107وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ .
وَقَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=105بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ الْبَاءُ لِلْآلَةِ جَعَلَ مَا أَرَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ بِمَنْزِلَةِ آلَةٍ لِلْحُكْمِ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إِلَى مُصَادَفَةِ الْعَدْلِ وَالْحَقِّ وَنَفْيِ الْجَوْرِ ، إِذْ لَا يَحْتَمِلُ عِلْمُ اللَّهِ الْخَطَأَ . وَالرُّؤْيَةُ فِي قَوْلِهِ أَرَاكَ اللَّهُ عِرْفَانِيَّةٌ ، وَحَقِيقَتُهَا الرُّؤْيَةُ الْبَصَرِيَّةُ ، فَأُطْلِقَتْ عَلَى مَا يُدْرَكُ بِوَجْهِ الْيَقِينِ لِمُشَابَهَتِهِ الشَّيْءَ الْمُشَاهَدَ . وَالرُّؤْيَةُ الْبَصَرِيَّةُ تَنْصِبُ مَفْعُولًا وَاحِدًا فَإِذْ أُدْخِلَتْ عَلَيْهَا هَمْزَةُ التَّعْدِيَةِ نَصَبَتْ مَفْعُولَيْنِ كَمَا هُنَا ، وَقَدْ حُذِفَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِأَنَّهُ ضَمِيرُ الْمَوْصُولِ ، فَأَغْنَى عَنْهُ الْمَوْصُولُ ، وَهُوَ حَذْفٌ كَثِيرٌ ، وَالتَّقْدِيرُ : بِمَا أَرَاكَهُ اللَّهُ .
فَكُلُّ مَا جَعَلَهُ اللَّهُ حَقًّا فِي كِتَابِهِ فَقَدْ أَمَرَ بِالْحُكْمِ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يُعْلِمُهُ الْحَقَّ فِي جَانِبِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ : إِنَّ فُلَانًا عَلَى الْحَقِّ ، لِأَنَّ هَذَا لَا يَلْزَمُ اطِّرَادُهُ ، وَلِأَنَّهُ لَا يُلْفَى مَدْلُولًا لِجَمِيعِ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَإِنَّ صَلُحَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ لِيَحْكُمَ بِالطُّرُقِ وَالْقَضَايَا الدَّالَّةِ عَلَى وَصْفِ الْأَحْوَالِ الَّتِي يَتَحَقَّقُ بِهَا الْعَدْلُ فَيَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ ، بِأَنْ تَنْدَرِجَ جُزْئِيَّاتُ أَحْوَالِهِمْ عِنْدَ التَّقَاضِي تَحْتَ الْأَوْصَافِ الْكُلِّيَّةِ الْمُبَيَّنَةِ فِي الْكِتَابِ ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=4وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ، فَقَدْ أَبْطَلَ حُكْمَ التَّبَنِّي الَّذِي كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَأَعْلَمَنَا أَنَّ قَوْلَ الرَّجُلِ لِمَنْ لَيْسَ وَلَدَهُ : هَذَا وَلَدِي ، لَا يَجْعَلُ لِلْمَنْسُوبِ حَقًّا فِي مِيرَاثِهِ .
وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُخْطِئُ فِي إِدْرَاجِ الْجُزْئِيَّاتِ تَحْتَ كُلِّيَّاتِهَا ، وَقَدْ يَعْرِضُ الْخَطَأُ لِغَيْرِهِ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَادِفُ الْحَقَّ مِنْ غَيْرِ وُجُوهِهِ الْجَارِيَةِ بَيْنَ النَّاسِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341576إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ [ ص: 193 ] أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذُهُ فَإِنَّمَا أَقْتَطِعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ .
وَغَيْرُ الرَّسُولِ يُخْطِئُ فِي الِانْدِرَاجِ ، وَلِذَلِكَ وَجَبَ بَذْلُ الْجُهْدِ وَاسْتِقْصَاءُ الدَّلِيلِ ، وَمِنْ ثَمَّ اسْتَدَلَّ عُلَمَاؤُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى
nindex.php?page=treesubj&link=22273وُجُوبِ الِاجْتِهَادِ فِي فَهْمِ الشَّرِيعَةِ .
وَعَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ لَا يَقُولَنَّ أَحَدٌ قَضَيْتُ بِمَا أَرَانِيَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ إِلَّا لِنَبِيئِهِ وَأَمَّا الْوَاحِدُ مِنَّا فَرَأْيُهُ يَكُونُ ظَنًّا وَلَا يَكُونُ عِلْمًا ، وَمَعْنَاهُ هُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ عُرُوضِ الْخَطَأِ فِي الْفَهْمِ لِغَيْرِ الرَّسُولِ دُونَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=105لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا لَامُ الْعِلَّةِ وَلَيْسَتْ لَامُ التَّقْوِيَةِ . وَمَفْعُولُ خَصِيمًا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ ذِكْرُ مُقَابِلِهِ وَهُوَ لِلْخَائِنِينَ ، أَيْ لَا تَكُنْ تُخَاصِمُ مَنْ يُخَاصِمُ الْخَائِنِينَ ، أَيْ لَا تُخَاصِمْ عَنْهُمْ . فَالْخَصِيمُ هُنَا بِمَعْنَى الْمُنْتَصِرُ الْمُدَافِعُ كَقَوْلِهِ كُنْتُ أَنَا خَصْمُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُرَادُ الْأُمَّةُ ، لِأَنَّ الْخِصَامَ عَنِ الْخَائِنِينَ لَا يُتَوَقَّعُ مِنَ النَّبِيءِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ تَحْذِيرُ الَّذِينَ دَفَعَتْهُمُ الْحَمِيَّةُ إِلَى الِانْتِصَارِ لِأَبْنَاءِ
أُبَيْرِقٍ .
وَالْأَمْرُ بِاسْتِغْفَارِ اللَّهِ جَرَى عَلَى أُسْلُوبِ تَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَى الرَّسُولِ ، فَالْمُرَادُ بِالْأَمْرِ غَيْرُهُ ، أَرْشَدَهُمْ إِلَى مَا هُوَ أَنْفَعُ لَهُمْ وَهُوَ اسْتِغْفَارُ اللَّهِ مِمَّا اقْتَرَفُوهُ ، أَوْ أَرَادَ :
nindex.php?page=treesubj&link=29492وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ لِلْخَائِنِينَ لِيُلْهِمَهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ بِبَرَكَةِ اسْتِغْفَارِكَ لَهُمْ فَذَلِكَ أَجْدَرُ مِنْ دِفَاعِ الْمُدَافِعِينَ عَنْهُمْ .
وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=64وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ اسْتِغْفَارَ النَّبِيءِ لِنَفْسِهِ ، كَمَا أَخْطَأَ فِيهِ مَنْ تَوَهَّمَ ذَلِكَ ، فَرَكَّبَ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيءَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَرَ بِبَالِهِ مَا أَوْجَبَ أَمْرَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ ، وَهُوَ هَمُّهُ أَنْ يُجَادِلَ عَنْ
بَنِي أُبَيْرِقٍ ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ سَرَقُوا ، خَشْيَةَ أَنْ يَفْتَضِحُوا ، وَهَذَا مِنْ أَفْهَامِ الضُّعَفَاءِ وَسُوءِ وَضْعِهِمُ الْأَخْبَارَ لِتَأْيِيدِ سَقِيمِ أَفْهَامِهِمْ .
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ وَلَا تُجَادِلْ لِلرَّسُولِ ، وَالْمُرَادُ نَهْيُ الْأُمَّةِ عَنْ ذَلِكَ ، لِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يُتَرَقَّبُ صُدُورُهُ مِنَ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=109هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا .
[ ص: 194 ] وَ يَخْتَانُونَ بِمَعْنَى يَخُونُونَ ، وَهُوَ افْتِعَالٌ دَالٌّ عَلَى التَّكَلُّفِ وَالْمُحَاوَلَةِ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْخِيَانَةِ . وَمَعْنَى خِيَانَتِهِمْ أَنْفُسَهُمْ أَنَّهُمْ بِارْتِكَابِهِمْ مَا يَضُرُّ بِهِمْ كَانُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَخُونُ غَيْرَهُ كَقَوْلِهِ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ . وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ أَنْفُسَهُمْ هُنَا بِمَعْنَى بَنِي أَنْفُسِهِمْ ، أَيْ بَنِي قَوْمِهِمْ ، كَقَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=85تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ ، وَقَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=61فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ، أَيِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ نَاسًا مِنْ أَهْلِهِمْ وَقَوْمِهِمْ . وَالْعَرَبُ تَقُولُ : هُوَ تَمِيمِيٌّ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ، أَيْ لَيْسَ بِمَوْلًى وَلَا لَصِيقٍ .
وَالْمُجَادَلَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْجَدَلِ ، وَهُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى الْخِصَامِ وَالْحُجَّةِ فِيهِ ، وَهِيَ مُنَازَعَةٌ بِالْقَوْلِ لِإِقْنَاعِ الْغَيْرِ بِرَأْيِكَ ، وَمِنْهُ سُمِّيَ عِلْمُ قَوَاعِدِ الْمُنَاظَرَةِ وَالِاحْتِجَاجِ فِي الْفِقْهِ عِلْمَ الْجَدَلِ ، وَكَانَ يَخْتَلِطُ بِعِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَعِلْمِ آدَابِ الْبَحْثِ وَعِلْمِ الْمَنْطِقِ .
وَلَمْ يُسْمَعْ لِلْجَدَلِ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ أَصْلِيٌّ ، وَالْمَسْمُوعُ مِنْهُ جَادَلَ لِأَنَّ الْخِصَامَ يَسْتَدْعِي خَصْمَيْنِ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : جَدَلَهُ فَهُوَ بِمَعْنَى غَلَبَهُ فِي الْمُجَادَلَةِ ، فَلَيْسَ فِعْلًا أَصْلِيًّا فِي الِاشْتِقَاقِ . وَمَصْدَرُ الْمُجَادَلَةِ : الْجِدَالُ ، قَالَ تَعَالَى وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ .
وَأَمَّا الْجَدَلُ بِفَتْحَتَيْنِ فَهُوَ اسْمُ الْمَصْدَرِ ، وَأَصْلُهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْجَدَلِ ، وَهُوَ الصَّرْعُ عَلَى الْأَرْضِ ، لِأَنَّ الْأَرْضَ تُسَمَّى الْجَدَالَةَ بِفَتْحِ الْجِيمِ يُقَالُ : جَدَلَهُ فَهُوَ مَجْدُولٌ .
وَجُمْلَةُ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ بَيَانٌ لِـ يَخْتَانُونَ . وَجُمْلَةُ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ حَالٌ ، وَذَلِكَ هُوَ مَحَلُّ الِاسْتِغْرَابِ مِنْ حَالِهِمْ وَكَوْنِهِمْ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ . وَالِاسْتِخْفَاءُ مِنَ اللَّهِ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا فِي الْحَيَاءِ ، إِذْ لَا يَعْتَقِدُ أَحَدٌ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ أَنَّهُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَخْفِيَ مِنَ اللَّهِ .
وَجُمْلَةُ وَهُوَ مَعَهُمْ حَالٌ مِنَ اسْمِ الْجَلَالَةِ ، وَالْمَعِيَّةُ هُنَا مَعِيَّةُ الْعِلْمِ وَالِاطِّلَاعِ . وَ إِذْ يُبَيِّتُونَ ظَرْفٌ ، وَالتَّبْيِيتُ جَعْلُ الشَّيْءِ فِي الْبَيَاتِ ، أَيِ اللَّيْلِ ، مِثْلُ التَّصْبِيحِ ، يُقَالُ : بَيَّتَهُمُ الْعَدُوُّ وَصَبَّحَهُمُ الْعَدُوُّ وَفِي الْقُرْآنِ : لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ أَيْ لَنَأْتِيَنَّهُمْ لَيْلًا فَنَقْتُلُهُمْ . وَالْمُبَيَّتُ هُنَا هُوَ مَا لَا يُرْضِي مِنَ الْقَوْلِ ، أَيْ دَبَّرُوهُ وَزَوَّرُوهُ لَيْلًا لِقَصْدِ الْإِخْفَاءِ ، كَقَوْلِ الْعَرَبِ : هَذَا أَمْرٌ قُضِيَ بِلَيْلٍ ، أَوْ تُشُوِّرَ فِيهِ بِلَيْلٍ ، وَالْمُرَادُ هُنَا تَدْبِيرُ مَكِيدَتِهِمْ لِرَمْيِ الْبُرَآءِ بِتُهْمَةِ السَّرِقَةِ .
[ ص: 195 ] وَقَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=109هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ اسْتِئْنَافٌ أَثَارَهُ قَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=107وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ ، وَالْمُخَاطَبُ كُلُّ مَنْ يَصْلُحُ لِلْمُخَاطَبَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ . وَالْكَلَامُ جَارٍ مَجْرَى الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ ، أَوْ مَجْرَى التَّعْرِيضِ بِبَعْضِ بَنِي ظَفَرٍ الَّذِينَ جَادَلُوا عَنْ
بَنِي أُبَيْرِقٍ .
وَالْقَوْلُ فِي تَرْكِيبِ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=85ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي آلِ عِمْرَانَ
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=119هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ .
وَ أَمْ فِي قَوْلِهِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا مُنْقَطِعَةٌ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ . وَ مَنِ اسْتِفْهَامٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ .
وَالْوَكِيلُ مَضَى الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ .