[ ص: 212 ] وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن .
عطف تشريع على إيمان وحكمة وعظة . ولعل هذا الاستفتاء حدث حين نزول الآيات السابقة ، فذكر حكمه عقبها معطوفا ، وهذا الاستفتاء حصل من المسلمين بعد أن نزل قوله تعالى وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء إلخ .
وأحسن ما ورد في تفسير هذه الآية ما رواه عن البخاري أنه سأل عروة بن الزبير عائشة عن قول الله تعالى وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى قالت : يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها فيريد أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره ، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق ، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن . وأن الناس استفتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد هذه الآية فأنزل الله تعالى ويستفتونك في النساء . قالت عائشة : وقول الله تعالى وترغبون أن تنكحوهن رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال; قالت : فنهوا عن أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهن عنهن إذا كن قليلات المال والجمال ، وكان الولي يرغب عن أن ينكحها ويكره أن يزوجها رجلا فيشركه في ماله بما شركته فيعضلها . فنزلت هذه الآية .
فالمراد : ويستفتونك في أحكام النساء إذ قد علم أن الاستفتاء لا يتعلق بالذوات ، فهو مثل قوله حرمت عليكم أمهاتكم . وأخص الأحكام بالنساء : أحكام ولايتهن ، وأحكام معاشرتهن . وليس المقصود هنا ميراث النساء إذ لا خطور له بالبال هنا .
وقوله قل الله يفتيكم فيهن وعد باستيفاء الإجابة عن الاستفتاء ، وهو ضرب من تبشير السائل المتحير بأنه قد وجد طلبته ، وذلك مثل قولهم : على الخبير سقطت .
[ ص: 213 ] وقوله تعالى سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا . وتقديم اسم الجلالة للتنويه بشأن هذه الفتيا .
وقوله وما يتلى عليكم عطف على اسم الجلالة ، أي ويفتيكم فيهن ما يتلى عليكم في الكتاب ، أي القرآن . وإسناد الإفتاء إلى ما يتلى إسناد مجازي ، لأن ما يتلى دال على إفتاء الله فهو سبب فيه ، فآل المعنى إلى : قل الله يفتيكم فيهن بما يتلى عليكم في الكتاب ، والمراد بذلك ما تلي عليهم من أول السورة ، وما سيتلى بعد ذلك ، فإن التذكير به وتكريره إفتاء به مرة ثانية ، وما أتبع به من الأحكام إفتاء أيضا . وقد ألمت الآية بخلاصة ما تقدم من قوله وآتوا اليتامى أموالهم إلى قوله وكفى بالله حسيبا . وكذلك أشارت هذه الآية إلى فقر مما تقدم : بقوله هنا في يتامى النساء اللاتي لا تؤتوهن ما كتب لهن فأشار إلى قوله وإن خفتم ألا تقسطوا إلى قوله فكلوه هنيئا مريئا .
ولحذف حرف الجر بعد ترغبون هنا موقع عظيم من الإيجاز وإكثار المعنى ، أي ترغبون عن نكاح بعضهن ، وفي نكاح بعض آخر ، فإن فعل رغب يتعدى بحرف ( عن ) للشيء الذي لا يحب ; وبحرف ( في ) للشيء المحبوب . فإذا حذف حرف الجر احتمل المعنيين إن لم يكن بينهما تناف ، وذلك قد شمله قوله في الآية المتقدمة وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا إلخ . وأشار بقوله هنا والمستضعفين من الولدان إلى قوله هنالك وآتوا اليتامى أموالهم إلى كبيرا وإلى قوله ولا تؤتوا السفهاء أموالكم إلى قوله معروفا .
وأشار بقوله وأن تقوموا لليتامى بالقسط إلى قوله هنالك وابتلوا اليتامى إلى حسيبا .
ولا شك أن ما يتلى في الكتاب هو من إفتاء الله ، إلا أنه لما تقدم على وقت الاستفتاء كان مغايرا للمقصود من قوله الله يفتيكم فيهن ، فلذلك صح عطفه عليه عطف السبب على المسبب . والإفتاء الأنف هو من قوله وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا إلى واسعا حكيما .
و " في " من قوله في يتامى النساء للظرفية المجازية ، أي في شأنهن ، أو للتعليل ، أي لأجلهن ، ومعنى كتب لهن فرض لهن إما من أموال من يرثنهم ، أو من [ ص: 214 ] المهور التي تدفعونها لهن ، فلا توفوهن مهور أمثالهن ، والكل يعد مكتوبا لهن ، كما دل عليه حديث عائشة - رضي الله عنها - وعلى الوجهين يجيء التقدير في قوله وترغبون أن تنكحوهن ولك أن تجعل الاحتمالين في قوله ما كتب لهن وفي قوله وترغبون أن تنكحوهن . مقصودين على حد استعمال المشترك في معنييه .
وقوله " والمستضعفين " عطف على يتامى النساء ، وهو تكميل وإدماج ، لأن الاستفتاء كان في شأن النساء خاصة ، والمراد المستضعفون والمستضعفات ، ولكن صيغة التذكير تغليب ، وكذلك الولدان ، وقد كانوا في الجاهلية يأكلون أموال من في حجرهم من الصغار .
وقوله وأن تقوموا عطف على يتامى النساء ، أي وما يتلى عليكم في . ومعنى القيام لهم التدبير لشئونهم ، وذلك يشمل يتامى النساء . القيام لليتامى بالعدل