لا مناسبة بين هذه الآية وبين اللاتي قبلها ، فوقوعها عقبها لا يكون إلا لأجل نزولها عقب نزول ما تقدمها من هذه السورة مع مناسبتها لآية الكلالة السابقة في أثناء ذكر الفرائض ; لأن في هذه الآية بيانا لحقيقة الكلالة أشار إليه قوله تعالى ( ليس له ولد ) ، وقد تقدم في أول السورة أنه ألحق بالكلالة المالك الذي ليس له والد ، وهو قول الجمهور . ومالك بن أنس
فحكم الكلالة قد بين بعضه في آية أول هذه السورة ، ثم إن الناس سألوا [ ص: 64 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صورة أخرى . وثبت في الصحيح أن الذي سأله هو من صور الكلالة قال : جابر بن عبد الله وأبو بكر ماشيين في بني سلمة فوجداني مغمى علي فتوضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصب علي وضوءه فأفقت وقلت : كيف أصنع في مالي فإنما يرثني كلالة ؟ فنزل قوله تعالى يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة الآية . وقد قيل : إنها نزلت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - متجهز لحجة الوداع في قضية عادني رسول الله . جابر بن عبد الله
فضمير الجماعة في قوله ( يستفتونك ) غير مقصود به جمع ، بل أريد به جنس السائلين ، على نحو : " " وهذا كثير في الكلام . ويجوز أن يكون السؤال قد تكرر وكان آخر السائلين ما بال أقوام يشترطون شروطا فتأخر الجواب لمن سأل قبله ، وعجل البيان له لأنه وقت الحاجة لأنه كان يظن نفسه ميتا من ذلك المرض وأراد أن يوصي بماله ، فيكون من تأخير البيان إلى وقت الحاجة . جابر بن عبد الله
، نحو : والتعبير بصيغة المضارع في مادة السؤال طريقة مشهورة يسألونك عن الأهلة ، ويسألونك ماذا ينفقون . لأن شأن السؤال يتكرر ، فشاع إيراده بصيغة المضارع ، وقد يغلب استعمال بعض صيغ الفعل في بعض المواقع ، ومنه غلبة استعمال المضارع في الدعاء في مقام الإنكار : كقول عائشة " يرحم الله أبا عبد الرحمن " تعني ، وقولهم " يغفر الله له " . ومنه غلبة الماضي مع ( لا ) فية في الدعاء إذا لم تكرر ( لا ) ; نحو ( فلا رجع ) . على أن الكلالة قد تكرر فيها السؤال قبل نزول الآية وبعدها . وقد ابن عمر : " ما راجعت رسول الله في شيء مراجعتي إياه في الكلالة ، وما أغلظ لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شيء ما أغلظ لي فيها حتى طعن في نحري وقال يكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء " عمر بن الخطاب وقوله ( في الكلالة ) يتنازعه في التعلق كل من فعل ( يستفتونك ) وفعل ( يفتيكم ) . قال
[ ص: 65 ] وقد سمى النبيء - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية بآية الصيف ، وعرفت بذلك ، كما عرفت آية الكلالة التي في أول السورة بآية الشتاء ، وهذا يدلنا على أن من الشتاء إلى الصيف وقد تقدم هذا في افتتاح السورة . سورة النساء نزلت في مدة متفرقة
وقد روي أن هذه الآية في الكلالة نزلت في طريق حجة الوداع ، ولا يصح ذلك لأن حجة الوداع كانت في زمن البرد لأنه لا شك أن غزوة تبوك وقعت في وقت الحر حين طابت الثمار ، والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم ، وذلك يقتضي أن تكون غزوة تبوك في نحو شهر أغسطس أو اشتنبر وهو وقت طيب البسر والرطب ، وكانت سنة تسع وكانت في رجب ونزل فيها قوله تعالى وقالوا لا تنفروا في الحر . ثم كانت حجة أبي بكر في ذي القعدة من تلك السنة ، سنة تسع ، وذلك يوافق دجنبر . وكان حج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع في ذي الحجة من سنة عشر فيوافق نحو شهر دجنبر أيضا .
وعن : أنه خطب فقال : " ثلاث لو بينها رسول الله لكان أحب إلي من الدنيا وما فيها : الجد . والكلالة ، وأبواب الربا " وفي رواية والخلافة . وخطب أيضا فقال : " والله إني ما أدع بعدي شيئا هو أهم إلي من أمر الكلالة " . وقال في مجمع من الصحابة : " لأقضين في الكلالة قضاء تتحدث به النساء في خدورها " . وأنه كتب كتابا في ذلك فمكث يستخير الله فيه ، فلما طعن دعا بالكتاب فمحاه . عمر بن الخطاب
وليس عمر في أمر الكلالة بتحير في فهم ما ذكره الله تعالى في كتابه ولكنه في اندراج ما لم يذكره القرآن تحت ما ذكره بالقياس . وقد ذكر القرآن الكلالة في أربع آيات : آيتي هذه السورة المذكور فيها لفظ الكلالة ، وآية في أول هذه السورة وهي قوله تحير فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث ، وآية آخر الأنفال وهي قوله وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله عند من رأى توارث ذوي الأرحام . ولا شك أن كل فريضة ليس فيها ولد ولا والد فهي كلالة بالاتفاق ، فأما الفريضة التي [ ص: 66 ] ليس فيها ولد وفيها والد فالجمهور أنها ليست بكلالة ، وقال بعض المتقدمين : هي كلالة .
وأمره بأن يجيب بقوله ( الله يفتيكم ) للتنويه بشأن الفريضة ، فتقديم المسند إليه للاهتمام لا للقصر ، إذ قد علم المستفتون أن الرسول لا ينطق إلا عن وحي ، فهم لما استفتوه فإنما طلبوا حكم الله ، فإسناد الإفتاء إلى الله تنويه بهذه الفريضة .
والمراد بالأخت هنا الأخت الشقيقة أو التي للأب في عدم الشقيقة بقرينة مخالفة نصيبها لنصيب الأخت للأم المقصودة في آية الكلالة الأولى ، وبقرينة قوله ( وهو يرثها ) لأن الأخ للأم لا يرث جميع المال إن لم يكن لأخته للأم ولد إذ ليس له إلا السدس .
وقوله ( إن امرؤ هلك ) تقديره : إن هلك امرؤ ، فامرؤ مخبر عنه بـ ( هلك ) في سياق الشرط ، وليس ( هلك ) بوصف لـ ( امرؤ ) فلذلك كان الامرؤ المفروض هنا جنسا عاما .
وقوله ( وهو يرثها ) يعود الضمير فيه على لفظ ( امرؤ ) الواقع في سياق الشرط ، المفيد للعموم : ذلك أنه وقع في سياق الشرط لفظ ( امرؤ ) ولفظ ( أخ ) أو ( أخت ) ، وكلها نكرات واقعة في سياق الشرط ، فهي عامة مقصود منها أجناس مدلولاتها ، وليس مقصودا بها شخص معين قد هلك ، ولا أخت معينة قد ورثت ، فلما قال ( وهو يرثها ) كان الضمير المرفوع راجعا إلى ( امرؤ ) لا إلى شخص معين قد هلك ; إذ ليس لمفهوم اللفظ هنا فرد معين فلا يشكل عليك بأن قوله ( امرؤ هلك ) يتأكد بقوله ( وهو يرثها ) إذ كيف يصير الهالك وارثا . وأيضا كان الضمير المنصوب في ( يرثها ) عائدا إلى مفهوم لفظ أخت لا إلى أخت معينة ، إذ ليس لمفهوم اللفظ هنا فرد معين ، وعلم من قوله يرثها أن الأخت إن توفيت ولا ولد لها ، يرثها أخوها ، والأخ هو الوارث في هذه [ ص: 67 ] الصورة ، وهي عكس التي قبلها ، فالتقدير : ويرث الأخت امرؤ إن هلكت أخته ولم يكن لها ولد . وعلم معنى الإخوة من قوله ( وله أخت ) ، وهذا إيجاز بديع ، ومع غاية إيجازه فهو في غاية الوضوح ، فلا يشكل بأن الأخت كانت وارثة لأخيها فكيف عاد عليها الضمير بأن يرثها أخوها الموروث ، وتصير هي موروثة ، لأن هذا لا يفرضه عالم بالعربية ، وإنما يتوهم ذلك لو وقع الهلك وصفا لامرئ ; بأن قيل : المرء الهالك يرثه وارثه وهو يرث وارثه إن مات وارثه قبله . والفرق بين الاستعمالين رشيق في العربية .
امتنان ، و ( وقوله يبين الله لكم أن تضلوا أن تضلوا ) تعليل لـ ( يبين ) حذفت منه اللام ، وحذف الجار مع ( أن ) شائع . والمقصود التعليل بنفي الضلال لا لوقوعه ; لأن البيان ينافي التضليل ، فحذفت لا النافية ، وحذفها موجود في مواقع من كلامهم إذا اتضح المعنى ، كما ورد مع فعل القسم في نحو :
فآلينا عليها أن تباعا
أي أن لا تباع ، وقوله :آليت حب العراق الدهر أطعمه
وهذا كقول عمرو بن كلثوم :نزلتم منزل الأضياف منا فعجلنا القرى أن تشتمونا
وقد جعل بعض المفسرين ( أن تضلوا ) مفعولا به لـ ( يبين ) وقال : المعنى أن الله فيما بينه من الفرائض قد بين لكم ضلالكم الذي كنتم عليه في الجاهلية ، وهذا بعيد ; إذ ليس ما فعلوه في الجاهلية ضلالا قبل مجيء الشريعة ، لأن قسمة [ ص: 68 ] المال ليست من الأفعال المشتملة على صفة حسن وقبيح بينة إلا إذا كان فيها حرمان لمن هو حقيق بالمؤاساة والمبرة ، ولأن المصدر مع ( أن ) يتعين أن يكون بمعنى المستقبل ، فكيف يصح أن يراد بـ ( أن تضلوا ) ضلالا قد مضى ، وسيجيء زيادة بيان لهذا عند قوله تعالى ( أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ) في سورة الأنعام .
وعن عمر أنه كان إذا قرأ هذه الآية يقول : " اللهم من بينت له الكلالة فلم تبين لي " رواه وفي سنده انقطاع ، وقد ضعفوه . الطبري ،
وقوله والله بكل شيء عليم تذييل . وفي هذه الآية إيذان بختم الكلام ، كقوله هذا بلاغ للناس ولينذروا به الآية ، وكقوله تعالى في حكاية كلام صاحب موسى ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا . فتؤذن بختام السورة .
وتؤذن بختام التنزيل إن صح أنها آخر آية نزلت كما ذلك في بعض الروايات ، وإذا صح ذلك فلا أرى اصطلاح علماء بلدنا على أن يختموا تقرير دروسهم بقولهم " والله أعلم " إلا تيمنا بمحاكاة ختم التنزيل .