عطف والمحصنات من المؤمنات على وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم عطف المفرد على المفرد . ولم يعرج المفسرون على بيان المناسبة لذكر حل المحصنات من المؤمنات في أثناء إباحة طعام أهل الكتاب ، وإباحة تزوج نسائهم . وعندي : أنه إيماء إلى أنهن أولى بالمؤمنين من محصنات أهل الكتاب ، والمقصود هو حكم المحصنات من الذين أوتوا الكتاب فإن هذه الآية جاءت لإباحة . فقوله التزوج بالكتابيات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب عطف على وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم . فالتقدير : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب حل لكم .
والمحصنات : النسوة الاء أحصنهن ما أحصنهن ، أي منعهن عن الخنا أو عن الريب ، فأطلق الإحصان على المعصومات بعصمة الأزواج كما في قوله تعالى في سورة النساء عطفا على المحرمات والمحصنات من النساء وعلى المسلمات لأن الإسلام وزعهن عن الخنا ، قال الشاعر :
ويصدهن عن الخنا الإسلام
وأطلق على الحرائر ، لأن الحرائر يترفعن عن الخنا من عهد الجاهلية .ولا يصلح من هذه المعاني هنا الأول ، إذ لا يحل تزوج ذات الزوج ، ولا الثاني لقوله من المؤمنات الذي هو ظاهر في أنهن بعض المؤمنات فتعين معنى الحرية ، ففسرها مالك بالحرائر ، ولذلك ولم يجد للحرائر طولا ، وجوز ذلك للعبد ، وكأنه جعل الخطاب هنا للأحرار بالقرينة وبقرينة آية النساء منع نكاح الحر [ ص: 124 ] الأمة إلا إذا خشي العنت ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات وهو تفسير بين ملتئم . وأصل ذلك لعمر بن الخطاب ومجاهد . ومن العلماء من فسر المحصنات هنا بالعفائف ، ونقل عن وغيره ، فمنعوا تزوج غير العفيفة من النساء لرقة دينها وسوء خلقها . الشعبي
وكذلك القول في تفسير قوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم أي الحرائر عند مالك ، ولذلك منع نكاح إماء أهل الكتاب مطلقا للحر والعبد . والذين فسروا المحصنات بالعفائف منعوا هنا ما منعوا هناك .
وشمل أهل الكتاب : الذميين ، والمعاهدين ، وأهل الحرب ، وهو ظاهر ، إلا أن مالكا كره . وعن نكاح النساء الحربيات : تخصيص الآية بغير نساء أهل الحرب ، فمنع نكاح الحربيات . ولم يذكروا دليله . ابن عباس
والأجور : المهور ، وسميت هنا ( أجورا ) مجازا في معنى الأعواض عن المنافع الحاصلة من آثار عقدة النكاح ، على وجه الاستعارة أو المجاز المرسل . والمهر شعار متقادم في البشر للتفرقة بين النكاح وبين المخادنة . ولو كانت المهور أجورا حقيقة لوجب تحديد مدة الانتفاع ومقداره وذلك مما تنزه عنه عقدة النكاح .
والقول في قوله محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان كالقول في نظيره محصنات غير مسافحات تقدم في سورة النساء .
وجملة ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله معترضة بين الجمل . والمقصود التنبيه على أن إباحة تزوج نساء أهل الكتاب لا يقتضي تزكية لحالهم ، ولكن ذلك تيسير على المسلمين . وقد ذكر في سبب نزولها أن [ ص: 125 ] نساء أهل الكتاب قلن لولا أن الله رضي ديننا لم يبح لكم نكاحنا .
والمراد بالإيمان الإيمان المعهود وهو إيمان المسلمين الذي بسببه لقبوا بالمؤمنين ، فالكفر هنا الكفر بالرسل ، أي : ينكر الإيمان ، أي ينكر ما يقتضيه الإيمان من المعتقدات ، إذ الإيمان صار لقبا لمجموع ما يجب التصديق به .
والحبط بسكون الموحدة والحبوط : فساد شيء كان صالحا ، ومنه سمي الحبط بفتحتين مرض يصيب الإبل من جراء أكل الخضر في أول الربيع فتنتفخ أمعاؤها وربما ماتت . وفعل ( حبط ) يؤذن بأن الحابط كان صالحا فانقلب إلى فساد . والمراد من الفساد هنا الضياع والبطلان ، وهو أشد الفساد ، فدل فعل ( حبط ) على أن الأعمال صالحة ، وحذف الوصف لدلالة الفعل عليه . وهذا تشبيه لضياع الأعمال الصالحة بفساد الذوات النافعة ، ووجه الشبه عدم انتفاع مكتسبها منها . والمراد ضياع ثوابها وما يترقبه العامل من الجزاء عليها والفوز بها .
والمراد التحذير من الارتداد عن الإيمان ، والترغيب في الدخول فيه كذلك ليعلم أهل الكتاب أنهم لا تنفعهم قرباتهم وأعمالهم ، ويعلم المشركون ذلك .