و " من " للابتداء . والأجل الجراء والتسبب أصله مصدر أجل يأجل ويأجل كنصر وضرب بمعنى جنى واكتسب . وقيل : هو خاص باكتساب الجريمة ، فيكون مرادفا لجنى وجرم ، ومنه الجناية والجريمة . غير أن العرب توسعوا فأطلقوا الأجل على المكتسب مطلقا بعلاقة الإطلاق .
والابتداء الذي استعملت له ( من ) هنا مجازي ، شبه سبب الشيء بابتداء صدوره ، وهو مثار قولهم : إن من معاني ( من ) التعليل ، فإن كثرة دخولها على كلمة ( أجل ) أحدث فيها معنى التعليل ، وكثرة حذف كلمة " أجل " بعدها محدث فيها معنى التعليل ، كما في قول الأعشى :
فآليت لا أرثي لها مـن كلالة ولا من حفى حتى ألاقي محمدا
واستفيد التعليل من مفاد الجملة . وكان التعليل بكلمة " من أجل " أقوى منه بمجرد اللام ، ولذلك اختير هنا ليدل على أن هذه الواقعة كانت هي السبب في تهويل أمر القتل وإظهار مثالبه .وفي ذكر اسم الإشارة وهو خصوص ( ذلك ) قصد استيعاب جميع المذكور .
[ ص: 176 ] وقرأ الجمهور من أجل ذلك بسكون نون ( من ) وإظهار همزة ( أجل ) . وقراءة عن ورش نافع بفتح النون وحذف همزة " اجل " على طريقته . وقرأ أبو جعفر ( من اجل ذلك ) بكسر نون ( من ) وحذف همزة " أجل " بعد نقل حركتها إلى النون فصارت غير منطوق بها .
ومعنى " كتبنا " شرعنا كقوله : كتب عليكم الصيام .
ومفعول " كتبنا " مضمون جملة أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا . و ( أن ) من قوله : ( أنه ) بفتح الهمزة أخت ( إن ) المكسورة الهمزة وهي تفيد المصدرية ، وضمير ( أنه ) ضمير الشأن ، أي " كتبنا " عليهم شأنا مهما هو مماثلة قتل نفس واحدة بغير حق لقتل القاتل الناس أجمعين . ووجه تحصيل هذا المعنى من هذا التركيب يتضح ببيان موقع حرف ( أن ) المفتوح الهمزة المشدد النون ، فهذا الحرف لا يقع في الكلام إلا معمولا لعامل قبله يقتضيه ، فتعين أن الجملة بعد ( أن ) بمنزلة المفرد المعمول للعامل ، فلزم أن الجملة بعد ( أن ) مؤولة بمصدر يسبك ، أي يؤخذ من خبر ( أن ) .
وقد اتفق علماء العربية على كون ( أن ) المفتوحة الهمزة المشددة النون أختا لحرف ( إن ) المكسورة الهمزة ، وأنها تفيد التأكيد مثل أختها .
واتفقوا على كون ( أن ) المفتوحة الهمزة من الموصولات الحرفية الخمسة التي يسبك مدخولها بمصدر . وبهذا تزيد ( أن ) المفتوحة على ( إن ) المكسورة .
وخبر ( أن ) في هذه الآية جملة من قتل نفسا بغير نفس إلخ . وهي مع ذلك مفسرة لضمير الشأن .
ومفعول " كتبنا " مأخوذ من جملة الشرط وجوابه ، وتقديره : كتبنا مشابهة قتل نفس بغير نفس إلخ بقتل الناس أجمعين في عظيم الجرم .
[ ص: 177 ] وعلى هذا الوجه جرى كلام المفسرين والنحويين . ووقع في لسان العرب عن الفراء ما حاصله : إذا جاءت ( أن ) بعد القول وما تصرف منه وكانت تفسيرا للقول ولم تكن حكاية له نصبتها ( أي فتحت همزتها ) مثل قولك : قد قلت لك كلاما حسنا أن أباك شريف ، تفتح ( أن ) لأنها فسرت " كلاما " ، وهو منصوب ، أي مفعول لفعل " قلت " فمفسره منصوب أيضا على المفعولية لأن البيان له إعراب المبين . فالفراء يثبت لحرف ( أن ) معنى التفسير علاوة على ما يثبته له جميع النحويين من معنى المصدرية ، فصار حرف ( أن ) بالجمع بين القولين دالا على معنى التأكيد باطراد ودالا معه على معنى المصدرية تارة وعلى معنى التفسير تارة أخرى بحسب اختلاف المقام . ولعل الفراء ينحو إلى أن حرف ( أن ) المفتوحة الهمزة مركب من حرفين هما حرف ( إن ) المكسورة الهمزة المشددة النون ، وحرف ( أن ) المفتوحة الهمزة الساكنة النون التي تكون تارة مصدرية وتارة تفسيرية; ففتح همزته لاعتبار تركيبه من ( أن ) المفتوحة الهمزة الساكنة النون مصدرية أو تفسيرية ، وتشديد نونه لاعتبار تركيبه من ( إن ) المكسورة الهمزة المشددة النون ، وأصله و ( أن إن ) فلما ركبا تداخلت حروفهما ، كما قال بعض النحويين : إن أصل ( لن ) ( لا أن ) .
وهذا بيان أن قتل النفس بغير حق جرم فظيع ، كفظاعة قتل الناس كلهم . والمقصود التوطئة لمشروعية القصاص المصرح به في الآية الآتية وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس الآية .
والمقصود من الإخبار بما كتب على بني إسرائيل بيان للمسلمين أن شرع سالف ومراد لله قديم ، لأن لمعرفة تاريخ الشرائع تبصرة للمتفقهين وتطمينا لنفوس المخاطبين وإزالة لما عسى أن يعترض من الشبه في أحكام خفيت مصالحها ، كمشروعية القصاص ، فإنه قد يبدو للأنظار القاصرة أنه مداواة بمثل الداء المتداوى منه حتى دعا ذلك الاشتباه بعض الأمم إلى إبطال حكم القصاص بعلة أنهم لا يعاقبون المذنب بذنب آخر ، وهي غفلة دق مسلكها عن انحصار الارتداع عن القتل في تحقق المجازاة بالقتل; لأن [ ص: 178 ] النفوس جبلت على حب البقاء وعلى حب إرضاء القوة الغضبية ، فإذا علم عند الغضب أنه إذا قتل فجزاؤه القتل ارتدع ، وإذا طمع في أن يكون الجزاء دون القتل أقدم على إرضاء قوته الغضبية ، ثم علل نفسه بأن ما دون القصاص يمكن الصبر عليه والتفادي منه . وقد كثر ذلك عند العرب وشاع في أقوالهم وأعمالهم ، قال قائلهم ، وهو حكم القصاص قيس بن زهير العبسي :
شفيت النفس من حمل بن بدر وسيفي من حذيفة قد شفاني
ومعنى التشبيه في قوله : فكأنما قتل الناس جميعا حث جميع الأمة على تعقب قاتل النفس وأخذه أينما ثقف والامتناع من إيوائه أو الستر عليه ، كل مخاطب على حسب مقدرته وبقدر بسطة يده في الأرض ، من ولاة الأمور إلى عامة الناس . فالمقصود من ذلك التشبيه تهويل القتل وليس المقصود أنه قد قتل الناس جميعا ، ألا ترى أنه قابل للعفو من خصوص أولياء الدم دون بقية الناس . على أن فيه معنى نفسانيا جليلا ، وهو أن الداعي الذي يقدم بالقاتل على القتل يرجع إلى ترجيح إرضاء الداعي النفساني الناشئ عن الغضب وحب الانتقام على دواعي احترام الحق وزجر النفس والنظر في عواقب الفعل من نظم العالم ، فالذي كان من حيلته ترجيح ذلك الداعي الطفيف على جملة هذه المعاني الشريفة فذلك ذو نفس يوشك أن تدعوه دوما إلى هضم الحقوق ، فكلما سنحت له الفرصة قتل ، ولو دعته أن يقتل الناس جميعا لفعل . ولك أن تجعل المقصد من التشبيه توجيه حكم القصاص وحقيته ، وأنه منظور فيه لحق المقتول بحيث لو تمكن لما رضي إلا بجزاء قاتله بمثل جرمه; فلا يتعجب أحد من حكم القصاص قائلا : كيف نصلح العالم بمثل ما فسد به ، وكيف نداوي الداء بداء آخر ، فبين لهم أن قاتل النفس عند ولي المقتول كأنما قتل الناس جميعا .
وقد ذكرت وجوه في بيان معنى التشبيه لا يقبلها النظر .
ومعنى ومن أحياها من استنقذها من الموت ، لظهور أن الإحياء بعد الموت [ ص: 179 ] ليس من مقدور الناس ، أي ومن اهتم باستنقاذها والذب عنها فكأنما أحيا الناس جميعا بذلك التوجيه الذي بيناه آنفا ، أو من غلب وازع الشرع والحكمة على داعي الغضب والشهوة فانكف عن القتل عند الغضب .