قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين   
استئناف ابتدائي للانتقال من مجادلة المشركين ، وما تخللها ، إلى فذلكة ما أمر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذا الشأن ، غلقا لباب المجادلة مع المعرضين ، وإعلانا بأنه قد تقلد لنفسه ما كان يجادلهم فيه ليتقلدوه وأنه ثابت على ما جاءهم به ، وأن إعراضهم لا يزلزله عن الحق . 
وفيه إيذان بانتهاء السورة لأن الواعظ والمناظر إذا ما أشبع الكلام في غرضه ، ثم أخذ يبين ما رضيه لنفسه وما قر عليه قراره ، علم السامع أنه قد أخذ يطوي سجل المحاجة ، ولذلك غير الأسلوب . فأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن يقول أشياء يعلن بها أصول دينه ، وتكرر الأمر بالقول ثلاث مرات تنويها بالمقول . 
وقوله : إنني هداني ربي  متصل بقوله : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه  الذي بينه بقوله : وهذا كتاب أنزلناه مبارك  فزاده بيانا بقوله هذا قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم  ، ليبين أن هذا الدين إنما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهدي   [ ص: 198 ] من الله ، وأنه جعله دينا قيما على قواعد ملة إبراهيم  عليه السلام ، إلا أنه زائد بما تضمنه من نعمة الله عليه إذ هداه إلى ذلك الصراط الذي هو سبيل النجاة . 
وافتتح الخبر بحرف التأكيد لأن الخطاب للمشركين المكذبين . 
وتعريف المسند إليه بالإضافة للاعتزاز بمربوبية الرسول - صلى الله عليه وسلم - لله تعالى ، وتعريضا بالمشركين الذين أضلهم أربابهم ، ولو وحدوا الرب الحقيق بالعبادة لهداهم . 
وقوله : هداني ربي إلى صراط مستقيم  تمثيلية : شبهت هيئة الإرشاد إلى الحق المبلغ بالنجاة بهيئة من يدل السائر على الطريق المبلغة للمقصود . 
والمناسبة بين الهداية وبين الصراط تامة ، لأن حقيقة الهداية التعرف بالطريق ، يقال : هو هاد خريت ، وحقيقة الصراط الطريق الواسعة . وقد صح أن تستعار الهداية للإرشاد والتعليم ، والصراط للدين القويم ، فكان تشبيها مركبا قابلا للتفكيك وهو أكمل أحوال التمثيلية . 
ووصف الصراط بالمستقيم ، أي الذي لا خطأ فيه ولا فساد ، وقد تقدم عند قوله تعالى : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه  ، والمقصود إتمام هيئة التشبيه بأنه دين لا يتطرق متبعه شك في نفعه كما لا يتردد سالك الطريق الواسعة التي لا انعطاف فيها ولا يتحير في أمره . 
وفي قوله : دينا تجريد للاستعارة مؤذن بالمشبه ، وانتصب على الحال من : " صراط " لأنه نكرة موصوفة . 
والدين تقدم عند قوله تعالى : إن الدين عند الله الإسلام  وهو السيرة التي يتبعها الناس . 
 [ ص: 199 ] والقيم بفتح القاف وتشديد الياء كما قرأه نافع ،  وابن كثير ،  وأبو عمرو ،  وأبو جعفر ،  ويعقوب    : وصف مبالغة قائم بمعنى معتدل غير معوج ، وإطلاق القيام على الاعتدال والاستقامة مجاز ، لأن المرء إذا قام اعتدلت قامته ، فيلزم الاعتدال القيام . والأحسن أن نجعل القيم للمبالغة في الأمر ، وهو مرادف القيوم ، فيستعار القيام للكفاية بما يحتاج إليه والوفاء بما فيه صلاح المقوم عليه ، فالإسلام قيم بالأمة وحاجتها ، يقال : فلان قيم على كذا ، بمعنى مدبر له ومصلح ، ومنه وصف الله تعالى بالقيوم ، وهذا أحسن لأن فيه زيادة على مفاد مستقيم الذي أخذ جزءا من التمثيلية ، فلا تكون إعادة لبعض التشبيه . 
وقرأ عاصم ،  وحمزة ،  وابن عامر ،   والكسائي ،  وخلف : " قيما " بكسر القاف وفتح الياء مخففة وهو من صيغ مصادر قام ، فهو وصف للدين بمصدر القيام المقصود به كفاية المصلحة للمبالغة ، وهذه زنة قليلة في المصادر ، وقلب واوه ياء بعد الكسرة على غير الغالب ، لأن الغالب فيه تصحيح لامه لأنها مفتوحة ، فسواء في خفتها وقوعها على الواو أو على الياء ، مثل عوض وحول ، وهذا كشذوذ جياد جمع جواد ، وانتصب " قيما " على الوصف لـ " دينا " وقوله : ملة إبراهيم  حال من : دينا أو من : صراط مستقيم أو عطف بيان من : دينا . الملة ، الدين : مرادفة الدين ، فالتعبير بها هنا للتفنن ألا ترى إلى قوله تعالى : ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين    . 
و " ملة " فعلة بمعنى المفعول ، أي المملول ، من أمللت الكتاب إذا لقنت الكاتب ما يكتب ، وكان حقها أن لا تقترن بهاء التأنيث لأن زنة فعل بمعنى المفعول تلزم التذكير ، كالذبح ، إلا أنهم   [ ص: 200 ] قرنوها بهاء التأنيث لما صيروها اسما للدين ، ولذلك قال الراغب    : الملة كالدين ، ثم قال : والفرق بينها وبين الدين أن الملة لا تضاف إلا إلى النبيء الذي تسند إليه نحو ملة إبراهيم ،  ملة آبائي ، ولا توجد مضافة إلى الله ولا إلى الأمة ، ولا تستعمل إلا في جملة الشريعة دون آحادها لا يقال الصلاة ملة الله ، أي ويقال : الصلاة دين الله ذلك أنه يراعى في لفظ الملة أنها مملولة من الله فهي تضاف للذي أملت عليه . 
ومعنى كون الإسلام ملة إبراهيم    : أنه جاء بالأصول التي هي شريعة إبراهيم  وهي : التوحيد ، ومسايرة الفطرة ، والشكر ، والسماحة ، وإعلان الحق ، وقد بينت ذلك عند قوله تعالى : ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما  في سورة آل عمران . 
والحنيف : المجانب للباطل ، فهو بمعنى المهتدي ، وقد تقدم عند قوله تعالى : قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين  في سورة البقرة . وهو منصوب على الحال . 
وجملة " وما كان من المشركين    " عطف على الحال من إبراهيم  عليه السلام المضاف إليه ، لأن المضاف هنا كالجزاء من المضاف إليه ، وقد تقدم في آية سورة البقرة . 
				
						
						
