nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=56nindex.php?page=treesubj&link=28978ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها عطف النهي عن الفساد في الأرض على جملة إنه لا يحب المعتدين عطفا على طريقة الاعتراض ، فإن الكلام لما أنبأ عن عناية الله بالمسلمين وتقريبه إياهم إذ أمرهم بأن يدعوه وشرفهم بذلك العنوان العظيم في قوله ( ربكم ) ، وعرض لهم بمحبته إياهم دون أعدائهم المعتدين ، أعقبه بما يحول بينهم وبين الإدلال على الله بالاسترسال فيما تمليه عليهم شهواتهم من ثوران القوتين الشهوية والغضبية ، فإنهما تجنيان فسادا في الغالب ، فذكرهم بترك الإفساد ليكون صلاحهم منزها عن أن يخالطه فساد ، فإنهم إن أفسدوا في الأرض أفسدوا مخلوقات كثيرة وأفسدوا أنفسهم في ضمن ذلك الإفساد ، فأشبه موقع الاحتراس ، وكذلك دأب القرآن أن يعقب الترغيب بالترهيب ، وبالعكس ، لئلا يقع الناس في اليأس أو الأمن .
والاهتمام بدرء الفساد كان مقاما هنا مقتضيا التعجيل بهذا النهي معترضا بين جملتي الأمر بالدعاء .
[ ص: 174 ] وفي إيقاع هذا النهي عقب قوله إنه لا يحب المعتدين تعريض بأن المعتدين وهم المشركون مفسدون في الأرض ، وإرباء للمسلمين عن مشابهتهم ، أي لا يليق بكم وأنتم المقربون من ربكم ، المأذون لكم بدعائه ، أن تكونوا مثل المبعدين منه المبغضين .
nindex.php?page=treesubj&link=32516والإفساد في الأرض والإصلاح تقدم الكلام عليهما عند قوله تعالى وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون في سورة البقرة ، وبينا هنالك أصول الفساد وحقائق الإصلاح ، ومر هنالك القول في حذف مفعول تفسدوا مما هو نظير ما هنا .
والأرض هنا هي الجسم الكروي المعبر عنه بالدنيا .
والإفساد في كل جزء من الأرض هو إفساد لمجموع الأرض ، وقد يكون بعض الإفساد مؤديا إلى صلاح أعظم مما جره الإفساد من المضرة ، فيترجح الإفساد إذا لم يمكن تحصيل صلاح ضروري إلا به ، فقد قطع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نخل
بني النضير ، ونهى
أبو بكر - رضي الله - عنه عن قطع شجر العدو ، لاختلاف الأحوال .
والبعدية في قوله بعد إصلاحها بعدية حقيقية ، لأن الأرض خلقت من أول أمرها على صلاح قال الله تعالى وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها على نظام صالح بما تحتوي عليه ، وبخاصة الإنسان الذي هو أشرف المخلوقات التي جعلها الله على الأرض ، وخلق له ما في الأرض ، وعزز ذلك النظام بقوانين وضعها الله على ألسنة المرسلين والصالحين والحكماء من عباده ، الذين أيدهم بالوحي والخطاب الإلهي ، أو بالإلهام والتوفيق والحكمة ، فعلموا الناس كيف يستعملون ما في الأرض على نظام يحصل به الانتفاع بنفع النافع وإزالة ما في النافع من الضر وتجنب ضر الضار ، فذلك النظام الأصلي ، والقانون المعزز له ، كلاهما
[ ص: 175 ] إصلاح في الأرض ، لأن الأول إيجاد الشيء صالحا ، والثاني جعل الضار صالحا بالتهذيب أو بالإزالة ، وقد مضى في قوله تعالى وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون في سورة البقرة ، أن الإصلاح موضوع للقدر المشترك بين إيجاد الشيء صالحا وبين جعل الفاسد صالحا . فالإصلاح هنا مصدر في معنى الاسم الجامد ، وليس في معنى الفعل ، لأنه أريد به إصلاح حاصل ثابت في الأرض لا إصلاح هو بصدد الحصول ، فإذا غير ذلك النظام فأفسد الصالح ، واستعمل الضار على ضره ، أو استبقي مع إمكان إزالته ، كان إفسادا بعد إصلاح ، كما أشار إليه قوله تعالى والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير .
والتصريح بالبعدية هنا تسجيل لفظاعة الإفساد بأنه إفساد لما هو حسن ونافع ، فلا معذرة لفاعله ولا مساغ لفعله عند أهل الأرض .
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=56nindex.php?page=treesubj&link=28978وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا عُطِفَ النَّهْيُ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ عَطْفًا عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِرَاضِ ، فَإِنَّ الْكَلَامَ لَمَّا أَنْبَأَ عَنْ عِنَايَةِ اللَّهِ بِالْمُسْلِمِينَ وَتَقْرِيبِهِ إِيَّاهُمْ إِذْ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَدْعُوَهُ وَشَرَّفَهُمْ بِذَلِكَ الْعُنْوَانِ الْعَظِيمِ فِي قَوْلِهِ ( رَبُّكُمْ ) ، وَعَرَّضَ لَهُمْ بِمَحَبَّتِهِ إِيَّاهُمْ دُونَ أَعْدَائِهِمُ الْمُعْتَدِينَ ، أَعْقَبَهُ بِمَا يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِدْلَالِ عَلَى اللَّهِ بِالِاسْتِرْسَالِ فِيمَا تُمْلِيهِ عَلَيْهِمْ شَهَوَاتُهُمْ مِنْ ثَوَرَانِ الْقُوَّتَيْنِ الشَّهْوِيَّةِ وَالْغَضَبِيَّةِ ، فَإِنَّهُمَا تَجْنِيَانِ فَسَادًا فِي الْغَالِبِ ، فَذَكَّرَهُمْ بِتَرْكِ الْإِفْسَادِ لِيَكُونَ صَلَاحُهُمْ مُنَزَّهًا عَنْ أَنْ يُخَالِطَهُ فَسَادٌ ، فَإِنَّهُمْ إِنْ أَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ أَفْسَدُوا مَخْلُوقَاتٍ كَثِيرَةً وَأَفْسَدُوا أَنْفُسَهُمْ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ الْإِفْسَادِ ، فَأَشْبَهَ مَوْقِعَ الِاحْتِرَاسِ ، وَكَذَلِكَ دَأْبُ الْقُرْآنِ أَنْ يُعَقِّبَ التَّرْغِيبَ بِالتَّرْهِيبِ ، وَبِالْعَكْسِ ، لِئَلَّا يَقَعَ النَّاسُ فِي الْيَأْسِ أَوِ الْأَمْنِ .
وَالِاهْتِمَامُ بِدَرْءِ الْفَسَادِ كَانَ مَقَامًا هُنَا مُقْتَضِيًا التَّعْجِيلَ بِهَذَا النَّهْيِ مُعْتَرِضًا بَيْنَ جُمْلَتَيِ الْأَمْرِ بِالدُّعَاءِ .
[ ص: 174 ] وَفِي إِيقَاعِ هَذَا النَّهْيِ عَقِبَ قَوْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الْمُعْتَدِينَ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ، وَإِرْبَاءٌ لِلْمُسْلِمِينَ عَنْ مُشَابِهَتِهِمْ ، أَيْ لَا يَلِيقُ بِكُمْ وَأَنْتُمُ الْمُقَرَّبُونَ مِنْ رَبِّكُمْ ، الْمَأْذُونُ لَكُمْ بِدُعَائِهِ ، أَنْ تَكُونُوا مِثْلَ الْمُبْعَدِينَ مِنْهُ الْمُبْغَضِينَ .
nindex.php?page=treesubj&link=32516وَالْإِفْسَادُ فِي الْأَرْضِ وَالْإِصْلَاحُ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَبَيَّنَّا هُنَالِكَ أُصُولَ الْفَسَادِ وَحَقَائِقَ الْإِصْلَاحِ ، وَمَرَّ هُنَالِكَ الْقَوْلُ فِي حَذْفِ مَفْعُولِ تُفْسِدُوا مِمَّا هُوَ نَظِيرُ مَا هُنَا .
وَالْأَرْضُ هُنَا هِيَ الْجِسْمُ الْكُرَوِيُّ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالدُّنْيَا .
وَالْإِفْسَادُ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنَ الْأَرْضِ هُوَ إِفْسَادٌ لِمَجْمُوعِ الْأَرْضِ ، وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُ الْإِفْسَادِ مُؤَدِّيًا إِلَى صَلَاحٍ أَعْظَمَ مِمَّا جَرَّهُ الْإِفْسَادُ مِنَ الْمَضَرَّةِ ، فَيَتَرَجَّحُ الْإِفْسَادُ إِذَا لَمْ يُمْكِنْ تَحْصِيلُ صَلَاحٍ ضَرُورِيٍّ إِلَّا بِهِ ، فَقَدْ قَطَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَخْلَ
بَنِي النَّضِيرِ ، وَنَهَى
أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ - عَنْهُ عَنْ قَطْعِ شَجَرِ الْعَدُوِّ ، لِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ .
وَالْبَعْدِيَّةُ فِي قَوْلِهِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا بَعْدِيَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ ، لِأَنَّ الْأَرْضَ خُلِقَتْ مِنْ أَوَّلِ أَمْرِهَا عَلَى صَلَاحٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا عَلَى نِظَامٍ صَالِحٍ بِمَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ ، وَبِخَاصَّةٍ الْإِنْسَانُ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ عَلَى الْأَرْضِ ، وَخَلَقَ لَهُ مَا فِي الْأَرْضِ ، وَعَزَّزَ ذَلِكَ النِّظَامَ بِقَوَانِينَ وَضْعَهَا اللَّهُ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُرْسَلِينَ وَالصَّالِحِينَ وَالْحُكَمَاءِ مِنْ عِبَادِهِ ، الَّذِينَ أَيَّدَهُمْ بِالْوَحْيِ وَالْخِطَابِ الْإِلَهِيِّ ، أَوْ بِالْإِلْهَامِ وَالتَّوْفِيقِ وَالْحِكْمَةِ ، فَعَلَّمُوا النَّاسَ كَيْفَ يَسْتَعْمِلُونَ مَا فِي الْأَرْضِ عَلَى نِظَامٍ يَحْصُلُ بِهِ الِانْتِفَاعُ بِنَفْعِ النَّافِعِ وَإِزَالَةِ مَا فِي النَّافِعِ مِنَ الضُّرِّ وَتَجَنُّبِ ضُرِّ الضَّارِّ ، فَذَلِكَ النِّظَامُ الْأَصْلِيُّ ، وَالْقَانُونُ الْمُعَزِّزُ لَهُ ، كِلَاهُمَا
[ ص: 175 ] إِصْلَاحٌ فِي الْأَرْضِ ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ إِيجَادُ الشَّيْءِ صَالِحًا ، وَالَثَانِي جَعْلُ الضَّارِّ صَالِحًا بِالتَّهْذِيبِ أَوْ بِالْإِزَالَةِ ، وَقَدْ مَضَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، أَنَّ الْإِصْلَاحَ مَوْضُوعٌ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ إِيجَادِ الشَّيْءِ صَالِحًا وَبَيْنَ جَعْلِ الْفَاسِدِ صَالِحًا . فَالْإِصْلَاحُ هُنَا مَصْدَرٌ فِي مَعْنَى الِاسْمِ الْجَامِدِ ، وَلَيْسَ فِي مَعْنَى الْفِعْلِ ، لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ إِصْلَاحٌ حَاصِلٌ ثَابِتٌ فِي الْأَرْضِ لَا إِصْلَاحٌ هُوَ بِصَدَدِ الْحُصُولِ ، فَإِذَا غُيِّرَ ذَلِكَ النِّظَامُ فَأُفْسِدَ الصَّالِحُ ، وَاسْتُعْمِلَ الضَّارُّ عَلَى ضُرِّهِ ، أَوِ اسْتُبِقِيَ مَعَ إِمْكَانِ إِزَالَتِهِ ، كَانَ إِفْسَادًا بَعْدَ إِصْلَاحٍ ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ .
وَالتَّصْرِيحُ بِالْبَعْدِيَّةِ هُنَا تَسْجِيلٌ لِفَظَاعَةِ الْإِفْسَادِ بِأَنَّهُ إِفْسَادٌ لِمَا هُوَ حَسَنٌ وَنَافِعٌ ، فَلَا مَعْذِرَةَ لِفَاعِلِهِ وَلَا مَسَاغَ لِفِعْلِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْأَرْضِ .