يجوز أن يكون قوله واذكروا عطفا على قوله اعبدوا ويكون ما بينهما اعتراضا حكي به ما جرى بينه وبين قومه من المحاورة التي قاطعوه بها عقب قوله لهم اعبدوا الله ، فلما أتم جوابهم عما قاطعوا به كلامه عاد إلى دعوته ، فيكون رجوعا إلى الدعوى ، ويجوز أن يكون عطفا على قوله أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم أي : لا تنكروا أن جاءكم ذكر من ربكم واذكروا نعمته عليكم ، فيكون تكملة للاستدلال ، وأيا ما كان فالمآل واحد ، وانتقل من أمرهم بالتوحيد إلى تذكيرهم بنعمة الله عليهم التي لا ينكرون أنها من نعم الله دون غيره ، لأن الخلق والأمر لله لا لغيره ، تذكيرا من شأنه إيصالهم إلى إفراد الله تعالى بالعبادة . وإنما أمرهم [ ص: 205 ] بالذكر ( بضم الذال ) لأن ، فإذا تذكرت النعمة رأت حقا عليها أن تشكر المنعم ، ولذلك كانت مسألة شكر المنعم من أهم مسائل التكليف ، والاكتفاء بحسنه عقلا عند المتكلمين سواء منهم من اكتفى بالحسن العقلي ومن لم يكتف به واعتبر التوقف على الخطاب الشرعي . النفس تنسى النعم فتكفر المنعم
و ( إذ ) اسم زمان منصوب على المفعول به ، وليس ظرفا لعدم استقامة المعنى على الظرفية ، والتحقيق أن إذ لا تلازم الظرفية بل هي ظرف متصرف ، وهو مختار صاحب الكشاف ، والمعنى : اذكروا الوقت الذي ظهرت فيه خلافتكم عن قوم نوح في تعمير الأرض والهيمنة على الأمم ، فإن عادا كانوا ذوي قوة ونعمة عظيمة وقالوا من أشد منا قوة .
فالخلفاء جمع خليفة وهو الذي يخلف غيره في شيء ، أي يتولى عمل ما كان يعمله الآخر ، وقد تقدم عند قوله تعالى إني جاعل في الأرض خليفة في سورة البقرة ، فالمراد : جعلكم خلفاء في تعمير الأرض . ولما قال من بعد قوم نوح علم أن المقصود أنهم خلفاء قوم نوح ، فعاد أول أمة اضطلعت بالحضارة بعد الطوفان ، وكان بنو نوح قد تكاثروا وانتشروا في الأرض ، في أرمينية والموصل والعراق وبلاد العرب ، وكانوا أمما كثيرة ، أو كانت عاد أعظم تلك الأمم وأصحاب السيادة على سائر الأمم ، وليس المراد أنهم خلفوا قوم نوح في ديارهم لأن منازل عاد غير منازل قوم نوح عند المؤرخين ، وهذا التذكير تصريح بالنعمة ، وتعريض بالنذارة والوعيد بأن قوم نوح إنما استأصلهم وأبادهم عذاب من الله على شركهم ، فمن اتبعهم في صنعهم يوشك أن يحل به عذاب أيضا .
و ( الخلق ) يحتمل أن يكون مصدرا خالصا ، ويحتمل أن يكون بمعنى اسم المفعول ، وهو يستعمل في المعنيين .
وقوله ( بصطة ) ثبت في المصاحف بصاد قبل الطاء وهو مرادف بسطة [ ص: 206 ] الذي هو بسين قبل الطاء . ووقع في آيات أخرى . وأهمل الراغب ( بصطة ) الذي بالصاد . وظاهر عبارة القرطبي أنه في هذه الآية بسين وليس كذلك .
( والبصطة ) : الوفرة والسعة في أمر من الأمور فإن كان ( الخلق ) بمعنى المصدر فالبصطة الزيادة في القوى الجبلية أي زادهم قوة في عقولهم وأجسامهم فخلقهم عقلاء أصحاء ، وقد اشتهر عند العرب نسبة العقول الراجحة إلى عاد ، ونسبة كمال قوى الأجسام إليهم قال النابغة :
أحلام عاد وأجسام مطهرة من المعقة والآفات والإثم
وقال وداك بن ثميل المازني في الحماسة :وأحلام عاد لا يخاف جليسهم ولو نطق العوار غرب لسان
وأن لا يقولوا غاب قيس وهذه سراويل عادي نمته ثـمـود
والفاء في قوله فاذكروا آلاء الله فصيحة ، أي : إن ذكرتم وقت جعلكم الله خلفاء في الأرض ووقت زادكم بصطة فاذكروا نعمه الكثيرة تفصيلا ، فالكلام جاء على طريقة القياس من الاستدلال بالجزئي على [ ص: 207 ] إثبات حكم كلي ، فإنه ذكرهم بنعمة واضحة وهي كونهم خلفاء ، ونعم مجملة وهي زيادة بصطتهم ، ثم ذكرهم بقية النعم بلفظ العموم وهو الجمع المضاف .
والآلاء جمع " إلى " والإلى النعمة وهذا مثل جمع عنب على أعناب ، ونظيره جمع إنى بالنون ، وهو الوقت ، على آناء قال تعالى غير ناظرين إناه أي وقته ، وقال ومن آناء الليل فسبح .
ورتب على ذكر نعم الله رجاء أن يفلحوا لأن ، فيحمل المنعم عليه على مقابلة النعم بالطاعة . ذكر النعم يؤدي إلى تكرير شكر المنعم