فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين
قوله تعالى : فأنجيناه تعقيب لجملة : وما كان جواب قومه أو لجملة : ( قال لقومه ) وهذا التعقيب يؤذن بأن لوطا - عليه السلام - أرسل إلى قومه قبل حلول العذاب بهم بزمن قليل .
و ( أنجيناه ) مقدم من تأخير . والتقدير : فأمطرنا عليهم مطرا وأنجيناه وأهله ، فقدم الخبر بإنجاء لوط - عليه السلام - على الخبر بإمطارهم مطر العذاب ، لقصد إظهار الاهتمام بأمر إنجاء لوط - عليه السلام - ، ولتعجيل المسرة للسامعين من المؤمنين ، فتطمئن قلوبهم لحسن عواقب أسلافهم من مؤمني الأمم الماضية ، فيعلموا أن تلك سنة الله في عباده ، وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى : فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك في هذه السورة .
وأهل لوط - عليه السلام - هم زوجه وابنتان له بكران ، وكان له ابنتان متزوجتان - كما ورد في التوراة - امتنع زوجاهما من الخروج مع لوط - عليه السلام - فهلكتا مع أهل القرية .
وأما امرأة لوط - عليه السلام - فقد أخبر الله عنها هنا أن الله لم ينجها ، فهلكت مع قوم لوط ، وذكر في سورة هود ما ظاهره أنها لم تمتثل ما أمر الله لوطا - عليه السلام - أن لا يلتفت هو ولا أحد من أهله الخارجين معه إلى المدن حين يصيبها العذاب فالتفتت امرأته فأصابها العذاب ، لوط - عليه السلام - كانت كافرة . وقال المفسرون : كانت تسر الكفر وتظهر الإيمان ، ولعل ذلك سبب التفاتها لأنها كانت غير موقنة بنزول العذاب على وذكر في سورة التحريم أن امرأة قوم لوط ، ويحتمل أنها لم [ ص: 237 ] تخرج مع لوط - عليه السلام - وأن قوله : إلا امرأتك في سورة هود ، استثناء من أهلك لا من ( أحد ) . لعل امرأة لوط - عليه السلام - كانت من أهل سدوم تزوجها لوط - عليه السلام - هنالك بعد هجرته ، فإنه أقام في سدوم سنين طويلة بعد أن هلكت أم بناته وقبل أن يرسل ، وليست هي أم بنتيه فإن التوراة لم تذكر امرأة لوط - عليه السلام - إلا في آخر القصة .
ومعنى من الغابرين من الهالكين ، والغابر يطلق على المنقضي ، ويطلق على الآتي ، فهو من أسماء الأضداد ، وأشهر إطلاقيه هو المنقضي ، ولذلك يقال : غبر بمعنى هلك ، وهو المراد هنا : أي كانت من الهالكين ، أي هلكت مع من هلك من أهل سدوم .
والإمطار مشتق من المطر ، والمطر اسم للماء النازل من السحاب ، يقال : مطرتهم السماء - بدون همزة - بمعنى نزل عليهم المطر ، كما يقال : غاثتهم ووبلتهم ، ويقال : مكان ممطور ، أي أصابه المطر ، ولا يقال : ممطر ، ويقال أمطروا - بالهمزة - بمعنى نزل عليهم من الجو ما يشبه المطر ، وليس هو بمطر ، فلا يقال : هم ممطرون ، ولكن يقال : هم ممطرون ، كما قال تعالى : وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل وقال فأمطر علينا حجارة من السماء كذا قال الزمخشري - هنا - وقال ، في سورة الأنفال : قد كثر الإمطار في معنى العذاب ، وعن أبي عبيدة أن التفرقة بين مطر وأمطر : أن مطر للرحمة ، وأمطر للعذاب . وأما قوله تعالى في سورة الأحقاف : قالوا هذا عارض ممطرنا فهو يعكر على كلتا التفرقتين ، ويعين أن تكون التفرقة أغلبية .
وكان قوم لوط حجرا وكبريتا من أعلى القرى كما في التوراة ، وكان الدخان يظهر من الأرض مثل دخان الأتون ، وقد ظن بعض الباحثين أن آبار الحمر التي ورد في التوراة أنها كانت في عمق السديم ، كانت قابلة للالتهاب بسبب زلازل أو سقوط صواعق عليها . وقد ذكر في [ ص: 238 ] آية أخرى ، في القرآن : أن الله جعل عالي تلك القرى سافلا ، وذلك هو الخسف وهو من آثار الزلازل ، ومن المستقرب أن يكون البحر الميت هنالك قد طغى على هذه الآبار أو البراكين من آثار الزلزال . الذي أصاب
وتنكير : ( مطرا ) للتعظيم والتعجيب أي : مطرا عجيبا من شأنه أن يهلك القرى .
وتفرع عن هذه القصة العجيبة الأمر بالنظر في عاقبتهم بقوله : فانظر كيف كان عاقبة المجرمين فالأمر للإرشاد والاعتبار . والخطاب يجوز أن يكون لغير معين بل لكل من يتأتى منه الاعتبار ، كما هو شأن إيراد التذييل بالاعتبار عقب الموعظة ، لأن المقصود بالخطاب كل من قصد بالموعظة ، ويجوز أن يكون الخطاب للنبيء - صلى الله عليه وسلم - تسلية له على ما يلاقيه من قومه الذين كذبوا بأنه لا ييأس من نصر الله ، وأن شأن الرسل انتظار العواقب .
والمجرمون فاعلوا الجريمة ، وهي المعصية والسيئة ، وهذا ظاهر في أن الله عاقبهم بذلك العقاب على هذه الفاحشة ، وأن لوطا - عليه السلام - أرسل لهم لنهيهم عنها ، لا لأنهم مشركون بالله ، إذ لم يتعرض له في القرآن بخلاف ما قص عن الأمم الأخرى ، لكن ، وبذلك يؤذن قوله تعالى في سورة التحريم : تمالئهم على فعل الفاحشة واستحلالهم إياها يدل على أنهم لم يكونوا مؤمنين بالله ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط ، فيكون إرسال لوط - عليه السلام - بإنكار تلك الفاحشة ابتداء بتطهير نفوسهم ، ثم يصف لهم الإيمان ، إذ لا شك أن لوطا - عليه السلام - بلغهم الرسالة عن الله تعالى ، وذلك يتضمن أنه دعاهم إلى الإيمان ، إلا أن اهتمامه الأول كان بإبطال هذه الفاحشة ، ولذلك وقع الاقتصار في إنكاره عليهم ومجادلتهم إياه على ما يخص تلك الفاحشة ، وقد علم أن الله أصابهم بالعذاب عقوبة ، على تلك الفاحشة ، كما قال في [ ص: 239 ] سورة العنكبوت : إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون وأنهم لو أقلعوا عنها لترك عذابهم على الكفر إلى يوم آخر أو إلى اليوم الآخر .