وتفسير صدر الآية هو كتفسير نظيره من قصة ثمود .
وإيثار وصفهم بالاستكبار هنا دون الكفر ، مع أنه لم يحك عنهم هنا خطاب المستضعفين ، حتى يكون ذكر الاستكبار إشارة إلى أنهم استضعفوا المؤمنين كما اقتضته قصة ثمود ، فاختير وصف الاستكبار هنا لمناسبة مخاطبتهم شعيبا بالإخراج أو الإكراه على اتباع دينهم ، وذلك من فعل الجبارين أصحاب القوة .
وكان إخراج المغضوب عليه من ديار قبيلته عقوبة متبعة في العرب إذا أجمعت القبيلة على ذلك ويسمى هذا الإخراج عند العرب بالخلع ، والمخرج يسمى خليعا .
قال امرؤ القيس :
به الذئب يعوي كالخليع المعيل
وأكدوا التوعد بلام القسم ونون التوكيد : ليوقن شعيب بأنهم منجزو ذلك الوعيد .[ ص: 6 ] وخطابهم إياه بالنداء جار على طريقة خطاب الغضب ، كما حكى الله قول آزر خطابا لإبراهيم - عليه السلام - أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم .
وقوله ( معك ) متعلق بـ لنخرجنك ، ومتعلق آمنوا محذوف ، أي بك ، لأنهم لا يصفونهم بالإيمان الحق في اعتقادهم .
والقرية المدينة لأنها يجتمع بها السكان . والتقري : الاجتماع . وقد تقدم عند قوله تعالى : أو كالذي مر على قرية ، والمراد بقريتهم هنا هي الأيكة وهي تبوك وقد رددوا أمر شعيب ومن معه بين أن يخرجوا من القرية وبين العود إلى ملة الكفر .
وقد جعلوا عود شعيب والذين معه إلى ملة القوم مقسما عليه فقالوا أو لتعودن ولم يقولوا : لنخرجنكم من أرضنا أو تعودن في ملتنا ، لأنهم أرادوا ترديد الأمرين في حيز القسم لأنهم فاعلون أحد الأمرين لا محالة وأنهم ملحون في عودهم إلى ملتهم .
وكانوا يظنون اختياره العود إلى ملتهم ، فأكدوا هذا العود بالقسم للإشارة إلى أنه لا محيد عن حصوله عوضا عن حصول الإخراج لأن أحد الأمرين مرض للمقسمين ، وأيضا فإن التوكيد مؤذن بأنهم إن أبوا الخروج من القرية فإنهم يكرهون على العود إلى ملة القوم كما دل عليه قول شعيب في جوابهم : أو لو كنا كارهين ولما كان المقام للتوعد والتهديد كان ذكر الإخراج من أرضهم أهم ، فلذلك قدموا القسم عليه ثم أعقبوه بالمعطوف بحرف أو .
والعود : الرجوع إلى ما كان فيه المرء من مكان أو عمل ، وجعلوا موافقة شعيب إياهم على الكفر عودا لأنهم يحسبون شعيبا كان على دينهم ، حيث لم يكونوا يعلمون منه ما يخالف ذلك ، فهم يحسبونه موافقا لهم من قبل أن يدعو إلى ما دعا إليه . وشأن الذين أرادهم الله للنبوءة أن يكونوا غير مشاركين لأهل الضلال من قومهم ولكنهم يكونون قبل أن يوحى إليهم في حالة خلو عن الإيمان حتى يهديهم الله إليه تدريجا ، وقومهم لا يعلمون باطنهم فلا حيرة في تسمية قومه موافقته إياهم عودا .
وهذا بناء على أن ، وذلك قول جميع المتكلمين من المسلمين ، وقد نبه على ذلك عياض في الشفاء في القسم الثالث وأورد قول شعيب : إن عدنا في ملتكم وتأول العود بأنه المصير ، وذلك تأويل كثير من [ ص: 7 ] المفسرين لهذه الآية . ودليل العصمة من هذا هو كمالهم ، والدليل مبني على أن خلاف الكمال قبل الوحي يعد نقصا ، وليس في الشريعة دليل قاطع على ذلك . وإنما الإشكال في قول الأنبياء معصومون من الشرك قبل النبوءة شعيب إن عدنا في ملتكم فوجهه أنه أجراه على المشاكلة والتغليب ، وكلاهما مصحح لاستعمال لفظ العود في غير معناه بالنسبة إليه خاصة ، وقد تولى شعيب الجواب عمن معه من المؤمنين ليقينه بصدق إيمانهم .
والملة : الدين ، وقد تقدم في قوله تعالى ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه في سورة البقرة .
وفصل جملة قال الملأ لوقوعها في المحاورة على ما بيناه عند قوله تعالى قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها في سورة البقرة .