. قوله تعالى :
وقد قدمنا في سورة " بني إسرائيل " أن الفعل في سياق النفي من صيغ العموم . لأنه ينحل عند بعض أهل العلم عن مصدر وزمان ، وعند بعضهم عن مصدر وزمان ونسبة . فالمصدر كامن في مفهومه إجماعا ، وهذا المصدر الكامن في مفهوم الفعل في حكم النكرة فيرجع ذلك إلى النكرة في سياق النفي وهي صيغة عموم عند الجمهور . فظهر أن الفعل في سياق النفي من صيغ العموم ، وكذلك الفعل في سياق الشرط . لأن النكرة في سياق الشرط أيضا صيغة عموم . وأكثر أهل العلم على ما ذكرنا من أن الفعل في سياق النفي أو الشرط من صيغ العموم ، خلافا لبعضهم فيما إذا لم يؤكد الفعل المذكور بمصدر . فإن أكد به فهو [ ص: 39 ] صيغة عموم بلا خلاف ، كما أشار إلى ذلك في مراقي السعود بقوله عاطفا على صيغ العموم :
ونحو لا شربت أو إن شربا واتفقوا إن مصدرا قد جلبا
الأول هو ما جاء من الآيات الدالة على أن . كقوله تعالى : الساحر كافر وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر الآية [ 2 102 ] . فقوله وما كفر سليمان يدل على أنه لو كان ساحرا وحاشاه من ذلك لكان كافرا . وقوله ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر صريح في كفر ، وقوله تعالى عن معلم السحر هاروت وماروت مقررا له : وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر [ 2 102 ] ، وقوله : ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق [ 2 102 ] أي : من نصيب ، ونفي النصيب في الآخرة بالكلية لا يكون إلا للكافر عياذا بالله تعالى . وهذه الآيات أدلة واضحة على أن من السحر ما هو كفر بواح ، وذلك مما لا شك فيه .
الأمر الثاني أنه عرف باستقراء القرآن أن الغالب فيه أن لفظة لا يفلح يراد بها الكافر ، كقوله تعالى في سورة " يونس " : قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون [ 10 68 - 70 ] ، وقوله في " يونس " أيضا : فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون [ 10 17 ] ، وقوله [ ص: 40 ] في " الأنعام " : ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون [ 6 21 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
ويفهم من مفهوم مخالفة الآيات المذكورة : أن من جانب تلك الصفات التي استوجبت نفي الفلاح عن السحرة ، والكفرة غيرهم أنه ينال الفلاح ، وهو كذلك ، كما بينه جل وعلا في آيات كثيرة . كقوله : أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون [ 2 5 ] ، وقوله تعالى : قد أفلح المؤمنون [ 23 1 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولا يفلح الساحر مضارع أفلح بمعنى نال الفلاح . والفلاح يطلق في العربية على الفوز بالمطلوب . ومنه قول لبيد :
فاعقلي إن كنت لما تعقلي ولقد أفلح من كان عقل
فقوله " ولقد أفلح من كان عقل " يعني أن من رزقه الله العقل فاز بأكبر مطلوب . ويطلق الفلاح أيضا على البقاء ، والدوام في النعيم . ومنه قول لبيد :
لو أن حيا مدرك الفلاح لناله ملاعب الرماح
فقوله " مدرك الفلاح " يعني البقاء . وقول الأضبط بن قريع السعدي ، وقيل كعب بن زهير :
لكل هم من الهموم سعه والمسي والصبح لا فلاح معه
عنى أنه ليس مع تعاقب الليل ، والنهار بقاء . وبكل واحد من المعنيين فسر بعض أهل العلم " حي على الفلاح " في الأذان ، والإقامة .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : حيث أتى حيث كلمة تدل على المكان ، كما تدل حينا على الزمان ، ربما ضمنت معنى الشرط . فقوله : ولا يفلح الساحر حيث أتى أي : حيث توجه وسلك . وهذا أسلوب عربي معروف يقصد به التعميم . كقولهم : فلان متصف بكذا حيث سار ، وأية سلك ، وأينما كان . ومن هذا القبيل قول زهير :
بان الخليط ولم يأووا لمن تركوا وزودوك اشتياقا أية سلكوا
وقال القرطبي في تفسير هذه الآية : ولا يفلح الساحر حيث أتى أي : لا يفوز ، ولا ينجو حيث أتى من الأرض . وقيل : حيث احتال . والمعنى في الآية هو [ ص: 41 ] ما بينا ، والله تعالى أعلم .