ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة . أنه أوحى إلى نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة [ ص: 69 ] والسلام : أن يسري بعباده ، وهم بنو إسرائيل فيخرجهم من قبضة فرعون ليلا ، وأن يضرب لهم طريقا في البحر يبسا ، أي : يابسا لا ماء فيه ، ولا بلل ، وأنه لا يخاف دركا من فرعون وراءه أن يناله بسوء . ولا يخشى من البحر أمامه أن يغرق قومه . وقد أوضح هذه القصة في غير هذا الموضع ، كقوله في سورة " الشعراء " : وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون فأرسل فرعون في المدائن حاشرين إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون وإنا لجميع حاذرون فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم كذلك وأورثناها بني إسرائيل فأتبعوهم مشرقين فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم [ 26 52 - 63 ] .
فقوله في " الشعراء " : أن اضرب بعصاك البحر فانفلق [ 26 63 ] أي : فضربه فانفلق يوضح معنى قوله : فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا [ 20 77 ] وقوله : قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين [ 26 61 - 62 ] يوضح معنى قوله : لا تخاف دركا ولا تخشى وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله في " الدخان " : فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون [ 44 22 - 24 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وقد قدمنا طرفا من ذلك في سورة " البقرة " ، والقصة معروفة واضحة من القرآن العظيم . وقرأ نافع ، وابن كثير " أن اسر " بهمزة وصل وكسر نون أن لالتقاء الساكنين ، والباقون قرءوا أن أسر بهمزة قطع مفتوحة مع إسكان نون " أن " وقد قدمنا في سورة " هود " أن أسرى وسرى لغتان وبينا شواهد ذلك العربية . وقرأ حمزة لا تخف بسكون الفاء بدون ألف بين الخاء ، والفاء ، وهو مجزوم لأنه جزاء الطلب ، أي : فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخف . وقد قدمنا أن نحو ذلك من الجزم بشرط محذوف تدل عليه صيغة الطلب ، أي : أن تضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخف . وعلى قراءة الجمهور " لا تخاف " بالرفع ، فلا إشكال في قوله ولا تخشى لأنه فعل مضارع مرفوع بضمة مقدرة على الألف ، معطوف على فعل مضارع مرفوع هو قوله : لا تخاف .
وأما على قراءة حمزة " لا تخف " بالجزم ففي قوله ولا تخشى إشكال معروف ، وهو أنه معطوف على مضارع مجزوم ، وذلك يقتضي جزمه ، ولو جزم لحذفت [ ص: 70 ] الألف من تخشى على حد قوله في الخلاصة :
واحذف جازما ثلاثهن تقض حكما لازما
والألف لم تحذف فوقع الإشكال بسبب ذلك .
وأجيب عنه من ثلاثة أوجه :
الأول : أن ولا تخشى مستأنف خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : وأنت لا تخشى ، أي : ومن شأنك أنك آمن لا تخشى .
والثاني : أن الفعل مجزوم ، والألف ليست هي الألف التي في موضع لام الكلمة ، ولكنها زيدت للإطلاق من أجل الفاصلة ، كقوله : فأضلونا السبيل [ 33 67 ] وقوله : وتظنون بالله الظنون [ 33 10 ] .
والثالث : أن إشباع الحركة بحرف مد يناسبها أسلوب معروف من أساليب اللغة العربية ، كقول عبد يغوث بن وقاص الحارثي :
وتضحك مني شيخة عبشمية كأن لم تر قبلي أسيرا يمانيا
وقول الراجز :
إذا العجوز غضبت فطلق ولا ترضاها ولا تملق
وقول الآخر :
قلت وقد خرت على الكلكال يا ناقتي ما جلت من مجال
ينباع من ذفري غضوب جسرة زيافة مثل الفنيق المكدم
فالأصل في البيت الأول : كأن لم تر ، ولكن الفتحة أشبعت . والأصل في الثاني ، ولا ترضها ، ولكن الفتحة أشبعت . والأصل في الثالث على الكلكال يعني الصدر ، ولكن الفتحة أشبعت . والأصل في الرابع ينبع يعني أن العرق ينبع من عظم الذفرى من ناقته على التحقيق ، ولكن الفتحة أشبعت ، وإشباع الفتحة بألف في هذه الأبيات وأمثالها مما لم نذكره ليس لضرورة للشعر لتصريح علماء العربية بأنه أسلوب عربي معروف . ويؤيد ذلك أنه مسموع في النثر ، كقولهم في النثر : كلكال ، وخاتام ، وداناق ، يعنون كلكلا ، وخاتما ، ودانقا . وقد أوضحنا هذه المسألة ، وأكثرنا من شواهدها العربية في كتابنا [ ص: 71 ] ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) في سورة " البلد " في الكلام على قوله : لا أقسم بهذا البلد [ 90 1 ] مع قوله : وهذا البلد الأمين [ 95 3 ] وقال في تفسير هذه الآية الزمخشري فاضرب لهم طريقا : فاجعل لهم طريقا ، من قولهم : ضرب له في ماله سهما ، وضرب اللبن عمله ا هـ . والتحقيق أن يبسا صفة مشبهة جاءت على فعل بفتحتين كبطل وحسن . وقال : اليبس مصدر وصف به . يقال : يبس يبسا ويبسا ، ونحوهما العدم ، والعدم ، ومن ثم وصف به المؤنث فقيل : شاتنا يبس ، وناقتنا يبس . إذا جف لبنها . الزمخشري
وقوله : لا تخاف دركا الدرك : اسم مصدر بمعنى الإدراك ، أي : لا يدرك فرعون وجنوده ، ولا يلحقونك من ورائك ، ولا تخشى من البحر أمامك . وعلى قراءة الجمهور لا تخاف فالجملة حال من الضمير في قوله فاضرب أي : فاضرب لهم طريقا في حال كونك غير خائف دركا ، ولا خاش . وقد تقرر في علم النحو أن الفعل المضارع المنفي بلا إذا كانت جملته حالية وجب الربط فيها بالضمير وامتنع بالواو . كقوله هنا : فاضرب لهم طريقا أي : في حال كونك لا تخاف دركا ، وقوله ما لي لا أرى الهدهد [ 27 20 ] وقوله : وما لنا لا نؤمن بالله [ 5 84 ] ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر :
ولو أن قوما لارتفاع قبيلة دخلوا السماء دخلتها لا أحجب
يعني دخلتها في حال كوني غير محجوب ، وبذلك تعلم أن قوله في الخلاصة :
وذات بدء بمضارع ثبت حوت ضميرا ومن الواو خلت
في مفهومه تفصيل كما هو معلوم في علم النحو .