قرأ هذا الحرف عامة السبعة ما عدا ابن كثير " أولم ير " بواو بعد الهمزة ، وقرأه ابن كثير " ألم ير الذين كفروا " بدون واو ، وكذلك هو في مصحف مكة . والاستفهام لتوبيخ الكفار وتقريعهم ، حيث يشاهدون غرائب صنع الله وعجائبه ، ومع هذا يعبدون من دونه ما لا ينفع من عبده ، ولا يضر من عصاه ، ولا يقدر على شيء .
وقوله : كانتا التثنية باعتبار النوعين اللذين هما نوع السماء ونوع الأرض ، كقوله تعالى : إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا [ 35 \ 41 ] ونظيره قول عمر بن شيبة :
ألم يحزنك أن جبال قيس وتغلب قد تباينتا انقطاعا
والرتق مصدر رتقه رتقا : إذا سده . ومنه الرتقاء ، وهي التي انسد فرجها ، ولكن المصدر وصف به هنا ، ولذا أفرده ولم يقل كانتا رتقين . والفتق : الفصل بين الشيئين المتصلين ، فهو ضد الرتق ، ومنه قول الشاعر :يهون عليهم إذا يغضبو ن سخط العداة وإرغامها
ورتق الفتوق وفتق الرتوق ونقض الأمور وإبرامها
[ ص: 141 ] الأول أن معنى كانتا رتقا أي : كانت السماوات والأرض متلاصقة بعضها مع بعض ، ففتقها الله وفصل بين السماوات والأرض ، فرفع السماء إلى مكانها ، وأقر الأرض في مكانها ، وفصل بينهما بالهواء الذي بينهما كما ترى .
القول الثاني : أن السماوات السبع كانت رتقا ، أي : متلاصقة بعضها ببعض ، ففتقها الله وجعلها سبع سماوات ، كل اثنتين منها بينهما فصل ، والأرضون كذلك كانت رتقا ففتقها ، وجعلها سبعا بعضها منفصل عن بعض .
القول الثالث : أن معنى كانتا رتقا أن السماء كانت لا ينزل منها مطر ، والأرض كانت لا ينبت فيها نبات ، ففتق الله السماء بالمطر ، والأرض بالنبات .
القول الرابع : كانتا رتقا أي : في ظلمة لا يرى من شدتها شيء ، ففتقهما الله بالنور . وهذا القول في الحقيقة يرجع إلى القول الأول والثاني .
الخامس : - وهو أبعدها لظهور سقوطه - أن الرتق يراد به العدم ، والفتق يراد به الإيجاد ، أي : كانتا عدما فأوجدناهما . وهذا القول كما ترى .
فإذا عرفت أقوال أهل العلم في هذه الآية ، فاعلم أن القول الثالث منها - وهو كونهما كانتا رتقا بمعنى أن السماء لا ينزل منها مطر ، والأرض لا تنبت شيئا ، ففتق الله السماء بالمطر ، والأرض بالنبات - قد دلت عليه قرائن من كتاب الله تعالى :
الأولى : أن قوله تعالى : أولم ير الذين كفروا أن [ 21 ] يدل على أنهم رأوا ذلك ؛ لأن الأظهر في " رأى " أنها بصرية ، والذي يرونه بأبصارهم هو أن السماء تكون لا ينزل منها مطر ، والأرض ميتة هامدة لا نبات فيها ، فيشاهدون بأبصارهم إنزال الله المطر وإنباته به أنواع النبات .
القرينة الثانية : أنه أتبع ذلك بقوله : وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون [ 21 ] . والظاهر اتصال هذا الكلام بما قبله ، أي : وجعلنا من الماء الذي أنزلناه بفتقنا السماء ، وأنبتنا به أنواع النبات بفتقنا الأرض - كل شيء حي .
القرينة الثالثة : أن هذا المعنى جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله ؛ كقوله تعالى : والسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع [ 86 \ 12 ] لأن المراد بالرجع نزول المطر منها تارة بعد أخرى ، والمراد بالصدع انشقاق الأرض عن النبات ، وكقوله تعالى : فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا الآية [ ص: 142 ] [ 80 \ 24 - 26 ] .
واختار هذا القول ، ابن جرير وابن عطية ، وغيرهما ؛ للقرائن التي ذكرنا . ويؤيد ذلك كثرة ورود الاستدلال بإنزال المطر ، وإنبات النبات في القرآن العظيم على كمال قدرة الله تعالى ، وعظم منته على خلقه ، وقدرته على البعث . والذين قالوا : إن المراد بالرتق والفتق أنهما كانتا متلاصقتين ، ففتقهما الله وفصل بعضهما عن بعض - قالوا في قوله : أولم ير أنها من " رأى " العلمية لا البصرية ، وقالوا : وجه تقريرهم بذلك أنه جاء في القرآن ، وما جاء في القرآن فهو أمر قطعي لا سبيل للشك فيه . والعلم عند الله تعالى .
وأقرب الأقوال في ذلك هو ما ذكرنا دلالة القرائن القرآنية عليه ، وقد قال فيه في تفسيره : ورجحوا هذا الوجه على سائر الوجوه بقوله بعد ذلك : الفخر الرازي وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا وذلك لا يليق إلا وللماء تعلق بما تقدم ، ولا يكون كذلك إلا إذا كان المراد ما ذكرنا .
فإن قيل : هذا الوجه مرجوح ؛ لأن المطر لا ينزل من السماوات بل من سماء واحدة وهي سماء الدنيا .
قلنا : إنما أطلق عليه لفظ الجمع لأن كل قطعة منها سماء ، كما يقال : ثوب أخلاق ، وبرمة أعشار . ا هـ منه .