أي : واذكر ذا النون . والنون : الحوت . " وذا " بمعنى صاحب . فقوله : وذا النون معناه : صاحب الحوت . كما صرح الله بذلك في " القلم " في قوله : ولا تكن كصاحب الحوت الآية [ 68 \ 48 ] . وإنما أضافه إلى الحوت لأنه التقمه كما قال تعالى : فالتقمه الحوت وهو مليم [ 37 \ 142 ] .
وقوله : فظن أن لن نقدر عليه [ 21 \ 87 ] فيه وجهان من التفسير لا يكذب أحدهما الآخر :
الأول : أن المعنى لن نقدر عليه أي : لن نضيق عليه في بطن الحوت . ومن إطلاق " قدر " بمعنى " ضيق " في القرآن قوله تعالى : الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر [ 13 \ 26 ] أي : ويضيق الرزق على من يشاء ، وقوله تعالى : لينفق ذو سعة من سعته [ ص: 241 ] ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله الآية [ 65 \ 7 ] . فقوله : ومن قدر عليه رزقه [ 65 \ 7 ] أي : ومن ضيق عليه رزقه .
الوجه الثاني : أن معنى لن نقدر عليه [ 21 \ 87 ] لن نقضي عليه ذلك . وعليه فهو من القدر والقضاء . " وقدر " بالتخفيف تأتي بمعنى " قدر " المضعفة : ومنه قوله تعالى : فالتقى الماء على أمر قد قدر [ 54 \ 12 ] أي : قدره الله . ومنه قول الشاعر - وأنشده ثعلب شاهدا لذلك - :
فليست عشيات الحمى برواجع لنا أبدا ما أورق السلم النضر ولا عائد ذاك الزمان الذي مضى
تباركت ما تقدر يقع لك الشكر
ألا يا لقومي للنوائب والقدر وللأمر يأتي المرء من حيث لا يدري
وقوله في هذه الآية الكريمة : مغاضبا أي : في حال كونه مغاضبا لقومه . ومعنى المفاعلة فيه : أنه أغضبهم بمفارقته وتخوفهم حلول العذاب بهم ، وأغضبوه حين دعاهم إلى الله مدة فلم يجيبوه ، فأوعدهم بالعذاب . ثم خرج من بينهم على عادة الأنبياء عند نزول العذاب قبل أن يأذن الله له في الخروج . قاله أبو حيان في البحر . وقال أيضا : وقيل معنى " مغاضبا " غضبان ، وهو من المفاعلة التي لا تقتضي اشتراكا نحو عاقبت اللص ، وسافرت . اهـ .
واعلم أن قول من قال مغاضبا أي : مغاضبا لربه كما روي عن ، وبه قال ابن مسعود الحسن ، ، والشعبي ، واختاره وسعيد بن جبير ، الطبري والقتبي ، واستحسنه المهدوي - يجب حمله على معنى القول الأول ، أي : مغاضبا من أجل ربه . قال القرطبي بعد أن ذكر هذا القول عمن ذكرنا : وقال النحاس : وربما أنكر هذا من لا يعرف اللغة ، وهو قول صحيح ، والمعنى : مغاضبا من أجل ربه كما تقول : غضبت لك أي : من [ ص: 242 ] أجلك ، والمؤمن يغضب لله عز وجل إذا عصي . انتهى منه . والمعنى على ما ذكر : مغاضبا قومه من أجل ربه ، أي : من أجل كفرهم به وعصيانهم له . وغير هذا لا يصح في الآية .
وقوله تعالى : فنادى في الظلمات . أي : ظلمة البحر ، وظلمة الليل ، وظلمة بطن الحوت . " وأن " في قوله : أن لا إله إلا أنت [ 21 \ 87 ] مفسرة ، وقد أوضحنا فيما تقدم معنى " أن لا إله " ، ومعنى " سبحانك " ، ومعنى الظلم ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
وقوله : فاستجبنا له أي : أجبناه ونجيناه من الغم الذي هو فيه في بطن الحوت ، وإطلاق " استجاب " بمعنى أجاب معروف في اللغة ، ومنه قول كعب بن سعد الغنوي :
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وبين في بعض المواضع أنه لو لم يسبح هذا التسبيح العظيم للبث في بطن الحوت إلى يوم البعث ولم يخرج منه . وبين في بعضها أنه طرحه بالعراء وهو سقيم .
وبين في بعضها أنه خرج بغير إذن كخروج العبد الآبق ، وأنهم اقترعوا على من يلقى في البحر فوقعت القرعة على يونس أنه هو الذي يلقى فيه .
وبين في بعضها أن الله تداركه برحمته . ولو لم يتداركه بها لنبذ بالعراء في حال كونه مذموما ، ولكنه تداركه بها فنبذ غير مذموم ، قال تعالى في " الصافات " : وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين فالتقمه الحوت وهو مليم فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون فنبذناه بالعراء وهو سقيم وأنبتنا عليه شجرة من يقطين وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين الآية [ 37 \ 139 - 148 ] . فقوله في آيات " الصافات " المذكورة : إذ أبق [ 37 \ 140 ] أي : حين أبق ، وهو من قول العرب : عبد آبق ؛ لأن يونس خرج قبل أن يأذن له ربه ، ولذلك أطلق عليه اسم الإباق واستحقاق الملامة في قوله : وهو مليم [ 37 \ 142 ] لأن المليم اسم فاعل " ألام " إذا فعل ما يستوجب [ ص: 243 ] الملام . وقوله : فساهم أي : قارع ، بمعنى أنه وضع مع أصحاب السفينة سهام القرعة ليخرج سهم من يلقى في البحر . وقوله : فكان من المدحضين أي المغلوبين في القرعة ؛ لأنه خرج له السهم الذي يلقى صاحبه في البحر ، ومن ذلك قول الشاعر :
قتلنا المدحضين بكل فج فقد قرت بقتلهم العيون
ورفعت رجلا لا أخاف عثارها ونبذت بالبلد العراء ثيابي
وآية " القلم " المذكورة تدل على أن نبي الله يونس - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - عجل بالذهاب ومغاضبة قومه ، ولم يصبر الصبر اللازم بدليل قوله مخاطبا نبينا - صلى الله عليه وسلم - فيها : فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت الآية [ 68 \ 48 ] . فإن أمره لنبينا - صلى الله عليه وسلم - بالصبر ونهيه إياه أن يكون كصاحب الحوت دليل على أن صاحب الحوت لم يصبر كما ينبغي . يونس وسبب ذهابه ومغاضبته قومه مشهورة مذكورة في كتب التفسير . وقد بين تعالى في سورة " يونس " أن وقصة قوم يونس آمنوا فنفعهم إيمانهم دون غيرهم من سائر القرى التي بعثت إليهم الرسل ، وذلك في قوله : فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا [ ص: 244 ] قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين [ 10 \ 98 ] .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وكذلك ننجي المؤمنين يدل على أنه ما من مؤمن يصيبه الكرب والغم فيبتهل إلى الله داعيا بإخلاص إلا نجاه الله من ذلك الغم ، ولا سيما إذا دعا بدعاء يونس هذا . وقد جاء في حديث مرفوع عن - رضي الله عنه - : سعد بن أبي وقاص يونس المذكور : " لم يدع به مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له " دعاء رواه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في أحمد ، ، والترمذي ، وابن أبي حاتم ، وغيرهم . والآية الكريمة شاهدة لهذا الحديث شهادة قوية كما ترى ؛ لأنه لما ذكر أنه أنجى وابن جرير يونس شبه بذلك إنجاءه المؤمنين . وقوله ننجي المؤمنين صيغة عامة في كل مؤمن كما ترى . وقرأ عامة القراء السبعة غير ابن عامر وشعبة عن عاصم وكذلك ننجي المؤمنين بنونين أولاهما مضمومة ، والثانية ساكنة بعدها جيم مكسورة مخففة فياء ساكنة ، وهو مضارع " أنجى " الرباعي على صيغة أفعل ، والنون الأولى دالة على العظمة ، وقرأ ابن عامر وشعبة عن عاصم " وكذلك نجي المؤمنين " بنون واحدة مضمومة بعدها جيم مكسورة مشددة فياء ساكنة . وهو على هذه القراءة بصيغة فعل ماض مبني للمفعول من نجى المضعفة على وزن " فعل " بالتضعيف . وفي كلتا القراءتين إشكال معروف . أما قراءة الجمهور فهي من جهة القواعد العربية واضحة لا إشكال فيها ، ولكن فيها إشكال من جهة أخرى ، وهي : أن هذا الحرف إنما كتبه الصحابة في المصاحف العثمانية بنون واحدة ، فيقال : كيف تقرأ بنونين وهي في المصاحف بنون واحدة ؟ وأما على قراءة ابن عامر وشعبة بالإشكال من جهة القواعد العربية ؛ لأن نجى على قراءتهما بصيغة ماض مبني للمفعول ، فالقياس رفع المؤمنين بعده على أنه نائب الفاعل ، وكذلك القياس فتح ياء " نجى " لا إسكانها .
وأجاب العلماء عن هذا بأجوبة ، منها ما ذكره بعض الأئمة ، وأشار إليه ابن هشام في باب الإدغام من توضيحه أن الأصل في قراءة ابن عامر وشعبة " ننجي " بفتح النون الثانية مضارع نجى مضعفا ، فحذفت النون الثانية تخفيفا . أو ننجي بسكونها مضارع " أنجى " وأدغمت النون في الجيم لاشتراكهما في الجهر ، والانفتاح ، والتوسط بين القوة والضعف ، كما أدغمت في " إجاصة وإجانة " بتشديد الجيم فيهما ، والأصل " إنجاصة وإنجانة " فأدغمت النون فيهما . والإجاصة : واحدة الإجاص ، قال في القاموس : الإجاص بالكسر مشددا : ثمر معروف ، دخيل لأن الجيم والصاد لا يجتمعان في كلمة ، الواحدة بهاء . ولا [ ص: 245 ] تقل إنجاص ، أو لغية . ا هـ . والإجانة واحدة الأجاجين . قال في التصريح : وهي بفتح الهمزة وكسرها . قال صاحب الفصيح : قصرية يعجن فيها ويغسل فيها . ويقال : إنجانة كما يقال إنجاصة ، وهي لغة يمانية فيهما أنكرها الأكثرون . ا هـ . فهذان وجهان في توجيه قراءة ابن عامر وشعبة ، وعليهما فلفظة " المؤمنين " مفعول به لـ " ننجي " .
ومن أجوبة العلماء عن قراءة ابن عامر وشعبة : أن " نجي " على قراءتهما فعل ماض مبني للمفعول ، والنائب عن الفاعل ضمير المصدر ، أي : نجى هو ، أي الإنجاء ، وعلى هذا الوجه فالآية كقراءة من قرأ ليجزى قوما الآية [ 45 \ 14 ] ببناء " يجزى " للمفعول ، والنائب ضمير المصدر ، أي : ليجزي هو ، أي الجزاء ونيابة المصدر عن الفاعل في حال كون الفعل متعديا للمفعول ترد بقلة ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :
وقابل من ظروف أو من مصدر أو حرف جر بنيابة حري
ولا ينوب بعض هذا إن وجد في اللفظ مفعول به وقد يرد
ولو ولدت قفيرة جرو كلب لسب بذلك الجرو الكلابا
لم يعن بالعلياء إلا سيدا ولا شفى ذا الغي إلا ذو هدى
خمر الشيب لمتي تخميرا وحدا بي إلى القبور البعيرا
ليت شعري إذ القيامة قامت ودعي بالحساب أين المصيرا