والمعنى : هذا العذاب الذي يذيقكه الله حصل لك بسببين ، وهما : ما قدمته يداك من عمل السوء من الكفر والمعاصي ، وعدالة من جازاك ذلك الجزاء الوفاق ، وعدم ظلمه . وقد أوضحنا فيما مضى إزالة الإشكال المعروف في نفي صيغة المبالغة ، في قوله : ليس بظلام فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
وفي هذه الآية الكريمة ثلاثة أسئلة :
الأول : هو ما ذكرنا آنفا أنا أوضحنا الجواب عنه سابقا ، وهو : أن المعروف في علم العربية أن النفي إذا دخل على صيغة المبالغة ، لم يقتض نفي أصل الفعل .
فلو قلت : ليس زيد بظلام للناس ، فمعناه المعروف : أنه غير مبالغ في الظلم ، ولا ينافي ذلك حصول مطلق الظلم منه . وقد قدمنا إيضاح هذا .
[ ص: 283 ] والسؤال الثاني : أنه أسند كل ما قدم إلى يديه في قوله : بما قدمت يداك وكفره الذي هو أعظم ذنوبه ليس من فعل اليد ، وإنما هو من فعل القلب واللسان ، وإن كان بعض أنواع البطش باليد يدل على الكفر ، فهو في اللسان والقلب أظهر منه في اليد . وزناه لم يفعله بيده ، بل بفرجه ، ونحو ذلك من المعاصي التي تزاول بغير اليد .
والجواب عن هذا ظاهر : وهو أن من أساليب اللغة العربية ، التي نزل بها القرآن إسناد جميع الأعمال إلى اليد ، نظرا إلى أنها الجارحة التي يزاول بها أكثر الأعمال فغلبت على غيرها ، ولا إشكال في ذلك .
والسؤال الثالث : هو أن يقال : ما وجه إشارة البعد في قوله : ذلك بما قدمت يداك مع أن العذاب المشار إليه قريب منه حاضر ؟
والجواب عن هذا : أن من أساليب اللغة العربية : وضع إشارة البعد موضع إشارة القرب . وقد أوضحنا هذه المسألة في كتابنا : دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب في الكلام على قوله تعالى في أول سورة البقرة : الم ذلك الكتاب الآية [ 2 \ 1 - 2 ] ؛ أي : هذا الكتاب .
ومن شواهد ذلك في اللغة العربية قول خفاف بن ندبة السلمي :
فإن تك خيلي قد أصيب صميمها فعمدا على عيني تيممت مالكا
أقول له والرمح يأطر متنه
تأمل خفافا إنني أنا ذلكا
يعني : أنا هذا .
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أن الكافر يقال له يوم القيامة : ذلك بما قدمت يداك الآية ، لا يخفى أنه توبيخ وتقريع وإهانة له ، وأمثال ذلك القول في القرآن كثيرة : كقوله تعالى : خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم ذق إنك أنت العزيز الكريم إن هذا ما كنتم به تمترون [ 44 \ 47 - 50 ] ، وقوله تعالى : يوم يدعون إلى نار جهنم دعا هذه النار التي كنتم بها تكذبون أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون [ 52 \ 13 - 16 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا .