ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أنواع - أعاذنا الله وإخواننا المسلمين منها ، ومن كل ما قرب إليها من قول وعمل - جاء مبينا في آيات أخر من كتاب الله ، فقوله هنا : عذاب أهل النار قطعت لهم ثياب من نار [ 22 \ 19 ] ؛ أي : قطع الله لهم من النار ثيابا ، وألبسهم إياها تنقد عليهم كقوله فيهم : سرابيلهم من قطران [ 14 \ 50 ] والسرابيل : هي الثياب التي هي القمص ، كما قدمنا إيضاحه ، وكقوله : لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش [ 7 \ 41 ] والغواشي : جمع غاشية ، وهي غطاء كاللحاف ، وذلك هو معنى قوله هنا : قطعت لهم ثياب من نار [ 22 \ 19 ] ، وقوله تعالى هنا : يصب من فوق رءوسهم الحميم ذكره أيضا في غير هذا الموضع كقوله : ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم ذق إنك أنت العزيز الكريم [ 44 \ 48 - 49 ] والحميم : الماء البالغ شدة الحرارة ، وكقوله تعالى : وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه الآية [ 18 \ 29 ] . وقوله هنا يصهر به ما في بطونهم [ 22 \ 20 ] ؛ أي : يذاب [ ص: 290 ] بذلك الحميم إذا سقوه فوصل إلى بطونهم كل ما في بطونهم من الشحم والأمعاء وغير ذلك ، كقوله تعالى : وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم [ 47 \ 15 ] والعرب تقول : صهرت الشيء فانصهر ، فهو صهير ؛ أي : أذبته فذاب ، ومنه قول يصف تغذية قطاة لفرخها في فلاة من الأرض : ابن أحمر
تروى لقى ألقي في صفصف تصهره الشمس فما ينصهر
؛ أي : تذيبه الشمس ، فيصبر على ذلك ، ولا يذوب .
وقوله : والجلود الظاهر أنه معطوف على " ما " من قوله : يصهر به ما في بطونهم [ 22 \ 20 ] التي هي نائب فاعل " يصهر " وعلى هذا الظاهر المتبادر من الآية فذلك الحميم يذيب جلودهم ، كما يذيب ما في بطونهم لشدة حرارته .
إذ المعنى : يصهر به ما في بطونهم ، وتصهر به الجلود ؛ أي : جلودهم ، فالألف واللام قامتا مقام الإضافة ، وقال بعض أهل العلم : والجلود مرفوع بفعل محذوف معطوف على تصهر ، وتقديره : وتحرق به الجلود ، ونظير ذلك في تقدير العامل المحذوف الرافع الباقي معموله مرفوعا بعد الواو ، قول لبيد في معلقته :
فعلا فروع الأيهقان وأطفلت بالجلهتين ظباؤها ونعامها
يعني : وباض نعامها ; لأن النعامة لا تلد الطفل ، وإنما تبيض ، بخلاف الظبية فهي تلد الطفل ، ومثاله في المنصوب قول الآخر :
إذا ما الغانيات برزن يوما وزججن الحواجب والعيونا
ترى منا الأيور إذا رأوها قياما راكعين وساجدينا
وقوله :
ورأيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا
؛ أي : وحاملا رمحا ; لأن الرمح لا يتقلد .
وقول الآخر :
[ ص: 291 ]
تراه كأن الله يجدع أنفه وعينيه إن مولاه ثاب له وفر
ومن شواهده المشهورة قول الراجز :
علفتها تبنا وماء باردا حتى شتت همالة عيناها
وهي انفردت
بعطف عامل مزال قد بقي معموله دفعا لوهم اتقي
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولهم مقامع من حديد [ 22 \ 21 ] المقامع : جمع مقمعة بكسر الميم الأولى ، وفتح الميم الأخيرة ، ويقال : مقمع بلا هاء ، وهو في اللغة : حديدة كالمحجن يضرب بها على رأس الفيل : وهي في الآية مرازب عظيمة من حديد تضرب بها خزنة النار رءوس أهل النار ، وقال بعض أهل العلم : المقامع : سياط من نار ، ولا شك أن المقامع المذكورة في الآية من الحديد لتصريحه تعالى بذلك .
وقوله تعالى : هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار الآية [ 22 \ 19 ] نزل في المبارزين يوم بدر ، وهم : ، حمزة بن عبد المطلب ، وعلي بن أبي طالب ، وفي أقرانهم المبارزين من الكفار ، وهم : وعبيدة بن الحارث بن المطلب عتبة بن ربيعة ، وابنه ، وأخوه الوليد بن عتبة شيبة بن ربيعة ، كما ثبت في الصحيحين ، وغيرهما .