وإذا علمت أقوال أهل العلم في معنى الاستطاعة المذكورة في قوله تعالى : من استطاع إليه سبيلا     [ 3 \ 97 ] فهذه أدلتهم . 
أما الأكثرون الذين فسروا الاستطاعة بالزاد والراحلة ، فحجتهم الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بتفسير الاستطاعة في الآية بالزاد والراحلة . وقد روي عنه ذلك من حديث  ابن عمر  ، ومن حديث  ابن عباس  ، ومن حديث أنس  ، ومن حديث عائشة  ، ومن حديث   [ ص: 311 ] جابر  ، ومن حديث  عبد الله بن عمرو بن العاص  ، ومن حديث  ابن مسعود  ا هـ . 
أما حديث  ابن عمر  فقد أخرجه الترمذي  ،  وابن ماجه  من طريق إبراهيم بن يزيد الخوزي  ، عن  محمد بن عباد بن جعفر المخزومي  ، عن  ابن عمر    . وقال الترمذي  بعد أن ساقه : هذا حديث حسن والعمل عليه عند أهل العلم : أن الرجل إذا ملك زادا وراحلة وجب عليه الحج . وإبراهيم بن يزيد هو الخوزي المكي  ، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه . انتهى من الترمذي    . 
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : تحسين الترمذي  رحمه الله لهذا الحديث لا وجه له ; لأن إبراهيم الخوزي  المذكور متروك لا يحتج بحديثه ، كما جزم به غير واحد . وقد نقل الزيلعي  في نصب الراية عن الترمذي    : أنه لما ساق الحديث المذكور ، قال فيه : حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم بن يزيد الخوزي    . وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه . ا هـ . 
ومقتضى ما نقل الزيلعي  عنه أنه لم يحسنه ، وإنما وصفه بالغرابة ، وهذا الذي ذكره الزيلعي  ذكره الترمذي  في موضع آخر ، وقد علمت أن إبراهيم الخوزي  لا يحتج به . فلا يكون حديث هو في إسناده حسنا . 
قال صاحب نصب الراية : وله طريق آخر عند  الدارقطني  في سننه أخرجه محمد بن الحجاج المصفر  ، ثنا  جرير بن حازم  ، عن  محمد بن عباد بن جعفر  ، عن  ابن عمر  مرفوعا ، ومحمد بن الحجاج المصفر  ضعيف . اهـ . وهو كما قال الزيلعي  ضعيف . قال في الميزان فيه : روى عباس  عن يحيى  ليس بثقة . وقال أحمد    : قد تركنا حديثه . وقال  البخاري  عن شعبة    : سكتوا عنه ، وقال  النسائي    : متروك . ثم ذكر بعض عجائبه ، وعلى كل حال فهو لا يحتج به . 
واعلم أن إبراهيم بن يزيد الخوزي  كما تابعه في هذه الرواية  جرير بن حازم  من طريق محمد بن الحجاج المصفر  الذي ذكرنا آنفا ، أنه لا يحتج به ، فقد تابعه أيضا فيها غيره من الضعفاء . 
قال الزيلعي  في نصب الراية بعد أن ذكر حديث إبراهيم الخوزي  المذكور ، عند الترمذي  ،  وابن ماجه    : ورواه  الدارقطني  ، ثم البيهقي  في سننهما . 
قال  الدارقطني    : وقد تابع  إبراهيم بن يزيد  عليه محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي  ،   [ ص: 312 ] فرواه عن  محمد بن عباد  ، عن  ابن عمر  عن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك . انتهى . وهذا الذي أشار إليه رواه  ابن عدي  في الكامل وأعله بمحمد بن عبد الله الليثي  ، وأسند تضعيفه عن  النسائي   وابن معين  ثم قال : والحديث معروف بإبراهيم بن يزيد الخوزي  ، وهو من هذه الطريق غريب . ثم ذكر عن البيهقي  تضعيف إبراهيم  المذكور . قال : وروي من أوجه أخر كلها ضعيفة . وروي عن  ابن عباس  من قوله : ورويناه من أوجه صحيحة ، عن الحسن  عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ، وفيه قوة لهذا السند . انتهى . ثم قال الزيلعي  بعد هذا الكلام الذي نقلناه عنه : قال الشيخ في الإمام قوله : فيه قوة ، فيه نظر . لأن المعروف عندهم : أن الطريق إذا كان واحدا ، ورواه الثقات مرسلا ، وانفرد ضعيف برفعه ، أن يعللوا المسند بالمرسل ، ويحملوا الغلط على رواية الضعيف . فإذا كان ذلك موجبا لضعف المسند ، فكيف يكون تقوية له . اهـ . وهو كما قال ، كما هو معروف في الأصول وعلم الحديث . ثم قال الزيلعي    : قال - يعني الشيخ - في الإمام : والذي أشار إليه من قول  ابن عباس  ، رواه  أبو بكر بن المنذر  ، حدثنا علان بن المغيرة  ، ثنا  أبو صالح عبد الله بن صالح  ، حدثني معاوية بن صالح  ، عن علي بن أبي طلحة  ، عن  ابن عباس  ، قوله . والمرسل رواه  سعيد بن منصور  في سننه ، حدثنا هشام  ، ثنا يونس  عن الحسن  قال : لما نزلت ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا    [ 3 \ 97 ] قال رجل : يا رسول الله ، وما السبيل ؟ قال صلى الله عليه وسلم " زاد وراحلة "   . انتهى . 
حدثنا الهيثم  ، ثنا منصور  ، عن الحسن  مثله . 
حدثنا خالد بن عبد الله  ، عن يونس  ، عن الحسن  مثله . قال : وهذه أسانيد صحيحة إلا أنها مرسلة . وقال ابن المنذر    : لا يثبت الحديث الذي فيه ذكر الزاد والراحلة مسندا ، والصحيح رواية الحسن  عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ، وأما المسند فإنما رواه  إبراهيم بن يزيد  ، وهو متروك ، ضعفه  ابن معين  وغيره . اهـ . من نصب الراية . 
وبهذا تعلم أن حديث  ابن عمر  المذكور لم يسند من وجه صحيح ، ولم يثبت ; لأن إبراهيم الخوزي  متروك ، ومحمد بن الحجاج المصفر  الذي ذكرنا أن إبراهيم  تابعه عليه  جرير بن حازم  من طريقه لا يحتج به كما بيناه ، وقد بينا أن متابعة محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي  لا تقويه ; لأنه ضعيف ، ضعفه  النسائي  ، وأعل الحديث به  ابن عدي  في الكامل . وقال الذهبي  في الميزان : ضعفه  ابن معين  ، وقال  البخاري    : منكر الحديث . وقال  النسائي    : متروك . . اهـ منه . 
 [ ص: 313 ] وأما مرسل  الحسن البصري  المذكور ، وإن كان إسناده صحيحا إلى الحسن  ، فلا يحتج به ; لأن مراسيل الحسن  رحمه الله لا يحتج بها . 
قال ابن حجر  في تهذيب التهذيب : وقال  الدارقطني    : مراسيل الحسن  فيها ضعف . وقال في تهذيب التهذيب أيضا : وقال محمد بن سعد    : كان الحسن  جامعا عالما رفيعا فقيها ثقة ، مأمونا ، عابدا ، ناسكا ، كثير العلم ، فصيحا ، جميلا ، وسيما ، وكان ما أسند من حديثه وروى عمن سمع منه ، فهو حجة ، وما أرسل فليس بحجة . 
وقال صاحب تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي    : وقال  أحمد بن حنبل    : مرسلات  سعيد بن المسيب  أصح المرسلات ، ومرسلات  إبراهيم النخعي  لا بأس بها ، وليس في المرسلات أضعف من مرسلات الحسن  وعطاء    ; فإنهما كانا يأخذان عن كل واحد . انتهى . ثم قال بعد هذا الكلام : وقال العراقي    : مراسيل الحسن  عندهم شبه الريح ، وعدم الاحتجاج بمراسيل الحسن  هو المشهور عند المحدثين . وقال بعض أهل العلم : هي صحاح إذا رواها عنه الثقات . قال ابن حجر  في تهذيب التهذيب : وقال  ابن المديني    : مرسلات الحسن  إذا رواها عنه الثقات صحاح ، ما أقل ما يسقط منها . وقال أبو زرعة    : كل شيء يقول الحسن    : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وجدت له أصلا ثابتا ما خلا أربعة أحاديث . اهـ . 
فهذا هو جملة الكلام في حديث  ابن عمر  عنه صلى الله عليه وسلم أنه فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة ، وقد علمت أنه لم يثبت من وجه صحيح ، بحسب صناعة علم الحديث ، وأما حديث  ابن عباس  ، فرواه  ابن ماجه  في سننه : حدثنا  سويد بن سعيد  ، ثنا هشام بن سليمان القرشي  ، عن  ابن جريج  قال ، وأخبرنيه أيضا ، عن ابن عطاء  ، عن عكرمة  ، عن  ابن عباس  رضي الله عنهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :   " الزاد والراحلة " يعني قوله : من استطاع إليه سبيلا    [ 3 \ 97 ] وهذا الإسناد فيه هشام بن سليمان بن عكرمة بن خالد بن العاص القرشي المخزومي  قال فيه أبو حاتم    : مضطرب الحديث ، ومحله الصدق ، ما أرى به بأسا . وقال  العقيلي    : في حديثه عن غير  ابن جريج  وهم ، وقال فيه ابن حجر  في التقريب : مقبول . اهـ . 
وقد أخرج له مسلم  ، وقال  البخاري  في صحيحه في البيوع : وقال لي  إبراهيم بن المنذر    : أنبأنا هشام  ، أخبرنا  ابن جريج  ، سمعت  ابن أبي مليكة  ، عن  نافع مولى ابن عمر   [ ص: 314 ] قال : " أيما ثمرة بيعت ، ثم أبرت " وذكر الحديث من قوله . وهذا يدل على أنه أيضا من رجال  البخاري    . وقال ابن حجر  في تهذيب التهذيب بعد أن ذكر هذا الكلام الذي ذكرنا : وأما كون المتقدمين لم يذكروه في رجال  البخاري    ; فلأن  البخاري  لم يخرج له سوى هذا الموضع في المتابعات ، وأورده بألفاظ الشواهد . انتهى منه . 
وبما ذكرنا تعلم أن حديث  ابن عباس  هذا عند  ابن ماجه  لا يقل عن درجة الحسن  ، مع أنه معتضد بما تقدم ، وبما سيأتي إن شاء الله تعالى . 
وقال الزيلعي  في نصب الراية : وأخرج حديث  ابن عباس  المذكور  الدارقطني  في سننه ، عن داود بن الزبرقان  ، عن عبد الملك  ، عن عطاء  عن  ابن عباس  ، وأخرج أيضا عن حصين بن المخارق  ، عن محمد بن خالد  ، عن  سماك بن حرب  ، عن عكرمة  ، عن  ابن عباس  قال : قيل يا رسول الله ، الحج كل عام ؟ قال " لا بل حجة " ، قيل : " فما السبيل إليه ؟ قال : الزاد والراحلة "   . انتهى . 
ثم قال : وداود  وحصين  كلاهما ضعيفان . اهـ . وداود بن الزبرقان  المذكور قال فيه ابن حجر  في التقريب : متروك ، وكذبه الأزدي  ، وحصين بن مخارق  المذكور قال فيه الذهبي  في الميزان : قال  الدارقطني    : يضع الحديث ، ونقل  ابن الجوزي  أن  ابن حبان  قال : لا يجوز الاحتجاج به . اهـ . 
وهذا حاصل ما في حديث  ابن عباس  المذكور . وأما حديث أنس  فقد أخرجه الحاكم  في المستدرك : حدثنا أبو بكر محمد بن حازم  الحافظ بالكوفة  ، وأبو سعيد إسماعيل بن أحمد التاجر  ، قالا : ثنا علي بن عباس بن الوليد البجلي  ، ثنا علي بن سعيد بن مسروق الكندي  ، ثنا  ابن أبي زائدة  ، عن  سعيد بن أبي عروبة  ، عن قتادة  ، عن أنس  رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تبارك وتعالى : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا    [ 3 \ 97 ] قال : قيل : يا رسول الله ، ما السبيل ؟ قال " الزاد والراحلة " ثم قال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه . وقد تابع  حماد بن سلمة  سعيدا  على روايته عن قتادة  ، حدثناه أبو نصر أحمد بن سهل بن حمدويه الفقيه  ببخارى  ، ثنا  صالح بن محمد بن حبيب  الحافظ ، ثنا أبو أمية عمرو بن هشام الحراني  ، ثنا  أبو قتادة  ، ثنا  حماد بن سلمة  ، عن قتادة  ، عن أنس  رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قول الله : من استطاع إليه سبيلا    [ 3 \ 97 ] فقيل : ما السبيل ؟ قال : " الزاد والراحلة " ثم قال : هذا حديث صحيح على شرط مسلم    . ولم يخرجاه . انتهى من المستدرك . وأقره على   [ ص: 315 ] تصحيح الطريقين المذكورتين الحافظ الذهبي  ، فحديث أنس  هذا صحيح كما ترى ، وقال صاحب نصب الراية : ورواه  الدارقطني  في سننه بالإسنادين . اهـ . 
وأما حديث عائشة  فقد قال صاحب نصب الراية : أخرجه  الدارقطني  في سننه عن عتاب بن أعين  ، عن  سفيان الثوري  ، عن  يونس بن عبيد  ، عن الحسن  ، عن أمه عن عائشة  قالت : سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا  قال " السبيل : الزاد والراحلة "   . انتهى . رواه  العقيلي  في كتاب الضعفاء ، وأعله بعتاب  وقال : إن في حديثه وهما . انتهى . 
وقال البيهقي  في كتاب المعرفة : وليس بمحفوظ ، ثم أخرجه البيهقي  ، عن  أبي داود الحفري  ، عن سفيان  ، عن يونس  ، عن الحسن  ، قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن السبيل ؟ فقال " الزاد والراحلة "   . اهـ . 
وقد علمت مما ذكرنا : أن حديث عائشة  المذكور أعله  العقيلي  بعتاب بن أعين  ، وقال : إن في حديثه وهما ، وأن البيهقي  قال : ليس بمحفوظ . وقد قال الذهبي  في الميزان في عتاب  المذكور ، قال  العقيلي    : في حديثه وهم . روى عنه  هشام بن عبيد الله  حديثا خولف في سنده . انتهى منه . 
وأما مرسل الحسن  الذي أشار له ، فقد قدمنا الكلام عليه مستوفى قريبا . 
وأما حديث جابر  ، فقد قال صاحب نصب الراية : أخرجه  الدارقطني  ، عن محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير  ، عن أبي الزبير  أو  عمرو بن دينار  ، عن  جابر بن عبد الله  رضي الله عنهما بلفظ حديث عائشة  ، ومحمد بن عبد الله بن عبيد الله الليثي  تركوه ، وأجمعوا على ضعفه ، وقد تقدم ، وقد قدمنا أن محمدا  المذكور لا يحتج به . وبهذا تعلم أن حديث جابر  المذكور لا يصلح للاحتجاج . 
وأما حديث  ابن مسعود  فقد قال صاحب نصب الراية : أخرجه  الدارقطني  ، عن بهلول بن عبيد  ، عن  حماد بن أبي سليمان  ، عن إبراهيم  ، عن علقمة  عن  عبد الله بن مسعود  بنحوه . وبهلول بن عبيد  ، قال أبو حاتم    : ذاهب الحديث . اهـ . 
وقال الذهبي  في الميزان في بهلول  المذكور : قال أبو حاتم    : ضعيف الحديث ذاهب . وقال أبو زرعة    : ليس بشيء ، وقال  ابن حبان    : يسرق الحديث . انتهى منه . 
وبما ذكر تعلم أن حديث  ابن مسعود  المذكور ليس بصالح للاحتجاج ، وأما حديث   [ ص: 316 ]  عبد الله بن عمرو بن العاص  ، فقد قال صاحب نصب الراية أيضا : أخرجه  الدارقطني  أيضا عن  ابن لهيعة  ، ومحمد بن عبيد الله العرزمي  عن أبيه عن جده بنحوه .  وابن لهيعة  والعرزمي  ضعيفان . قال الشيخ في الإمام : وقد أخرج  الدارقطني  هذا الحديث عن جابر  ، وأنس  ،  وعبد الله بن عمرو بن العاص  ،  وعبد الله بن مسعود  ، وعائشة  ، وليس فيها إسناد يحتج به . انتهى منه . 
هذا هو حاصل روايات الأحاديث الواردة بتفسير السبيل في الآية بالزاد والراحلة . وقال غير واحد : إن هذا الحديث لا يثبت مسندا ، وأنه ليس له طريق صحيحة ، إلا الطريق التي أرسلها الحسن    . 
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي والله تعالى أعلم : أن حديث الزاد والراحلة المذكور ثابت لا يقل عن درجة الاحتجاج ; لأن الطريقين اللتين أخرجهما به الحاكم  في المستدرك عن أنس  قال : كلتاهما صحيحة الإسناد ، وأقر تصحيحهما الحافظ الذهبي  ، ولم يتعقبه بشيء ، والدعوى على  سعيد بن أبي عروبة   وحماد بن سلمة  في روايتهما الحديث ، عن أنس  ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها غلط ، وأن الصحيح عن قتادة  عن الحسن  مرسلا - دعوى لا مستند لها ، بل هي تغليط وتوهيم للعدول المشهورين من غير استناد إلى دليل . 
والصحيح عند المحققين من الأصوليين والمحدثين : أن الحديث إذا جاء من طريق صحيحة ، وجاء من طرق أخرى غير صحيحة  ، فلا تكون تلك الطرق علة في الصحيحة ، إذا كان رواتها لم يخالفوا جميع الحفاظ ، بل انفراد الثقة العدل بما لم يخالف فيه غيره مقبول عند المحققين . 
فرواية  سعيد بن أبي عروبة   وحماد بن سلمة  الحديث المذكور عن قتادة  عن أنس  مرفوعا لم يخالفوا فيها غيرهم ، بل حفظوا ما لم يحفظه غيرهم ، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ ، فادعاء الغلط عليهما بلا دليل غلط ، وقول النووي  في شرح المهذب : وروى الحاكم  حديث أنس  ، وقال : وهو صحيح ، ولكن الحاكم  متساهل كما سبق بيانه مرات . والله أعلم . 
يجاب عنه بأنا لو سلمنا أن الحاكم  متساهل في التصحيح ، لا يلزم من ذلك أنه لا يقبل له تصحيح مطلقا . ورب تصحيح للحاكم  مطابق للواقع في نفس الأمر ، وتصحيحه لحديث أنس  المذكور لم يتساهل فيه ؛ ولذا لم يبد النووي  وجها لتساهله فيه ، ولم يتكلم   [ ص: 317 ] في أحد من رواته بل هو تصحيح مطابق . 
فإن قيل : متابعة  حماد بن سلمة   لسعيد بن أبي عروبة  المذكورة ، راويها عن حماد  هو أبو قتادة عبد الله بن واقد الحراني  ، وهو متروك ، لا يحتج بحديثه ، كما جزم به غير واحد من العلماء بالرجال . وقال فيه ابن حجر  في التقريب : متروك ، فقد تساهل الحاكم  في قوله : إن هذه الطريق على شرط مسلم  ، مع أن في إسنادها أبا قتادة  المذكور . 
فالجواب : أن أبا قتادة  المذكور ، وإن ضعفه الأكثرون ، فقد وثقه  الإمام أحمد  وأثنى عليه ، وناهيك بتوثيق  الإمام أحمد  وثنائه ، وذكر ابن حجر  والذهبي    : أن عبد الله بن أحمد  قال لأبيه : إن يعقوب بن إسماعيل بن صبيح  ذكر أن أبا قتادة  المذكور كان يكذب ، فعظم ذلك عنده جدا ، وأثنى عليه وقال : إنه يتحرى الصدق . قال : ولقد رأيته يشبه أصحاب الحديث . وقال أحمد  في موضع آخر : ما به بأس ، رجل صالح ، يشبه أهل النسك ربما أخطأ . وفي إحدى الروايتين عن  ابن معين  أنه قال : أبو قتادة الحراني  ثقة . ذكرها عنه ابن حجر  والذهبي  ، وقول من قال : لعله كبر فاختلط ، تخمين وظن لا يثبت به اختلاطه ، ومعلوم أن المقرر في الأصول وعلوم الحديث : أن الصحيح أن التعديل يقبل مجملا ، والتجريح لا يقبل إلا مفصلا ، مع أن رواية  سعيد بن أبي عروبة  ، عن أنس  ليس في أحد من رواتها كلام . 
ومما يؤيد ذلك موافقة الحافظ النقادة الذهبي  للحاكم  على تصحيح متابعة حماد  ، مع أن حديث أنس  الصحيح المذكور معتضد بمرسل الحسن  ، ولا سيما على قول من يقول : إن مراسيله صحاح ، إذا روتها عنه الثقات  كابن المديني  وغيره ، كما قدمناه . 
ويؤيد ذلك أن مشهور مذهب مالك  ، وأبي حنيفة  ، وأحمد  الاحتجاج بالمرسل كما قدمناه مرارا ، ويؤيده أيضا الأحاديث المتعددة التي ذكرنا ، وإن كانت ضعافا ؛ لأنها تقوي غيرها ، ولا سيما حديث  ابن عباس  ، فإنا قد ذكرنا سنده ، وبينا أنه لا يقل عن درجة الاحتجاج . 
وقال الشوكاني  في نيل الأوطار : ولا يخفى أن هذه الطرق يقوي بعضها بعضا ، فتصلح للاحتجاج . 
ومما يؤيد الحديث المذكور أن أكثر أهل العلم على العمل به ، كما قدمنا عن  أبي عيسى الترمذي  أنه قال في حديث : الزاد والراحلة ، والعمل عليه عند أهل العلم ، وقد بينا أنه   [ ص: 318 ] قول الأكثرين ، منهم الأئمة الثلاثة . 
أبو حنيفة  ،  والشافعي  ، وأحمد    . 
فالحاصل : أن حديث الزاد والراحلة ، لا يقل بمجموع طرقه عن درجة القبول والاحتجاج . 
وأظهر قولي أهل العلم عندي أن المعتبر في ذلك ما يبلغه ذهابا وإيابا . 
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي والله تعالى أعلم : أن حديث الزاد والراحلة ، وإن كان صالحا للاحتجاج لا يلزم منه أن القادر على المشي على رجليه بدون مشقة فادحة لا يلزمه الحج ، إن كان عاجزا عن تحصيل الراحلة ، بل يلزمه الحج ; لأنه يستطيع إليه سبيلا ، كما أن صاحب الصنعة التي يحصل منها قوته في سفر الحج ، يجب عليه الحج ; لأن قدرته على تحصيل الزاد في طريقه كتحصيله بالفعل . 
				
						
						
