الفرع الخامس : اعلم أن العلماء اختلفوا في ، فذهب القدر الذي يوجب تركه الدم من رمي الجمار مالك ، وأصحابه إلى أن من أخر رمي حصاة واحدة من واحدة من الجمار إلى ليل ذلك اليوم لزمه الدم ، وما فوق الحصاة أحرى بذلك ، وسواء عندهم في ذلك من جمرة العقبة يوم النحر ، ورمي الثلاث أيام التشريق . ومعلوم أن من توقف من المالكية في كون الرمي ليلا قضاء يتوقف في وجوب الدم ، إن رمى ليلا ، ولكن مشهور مذهبه : هو أن الليل قضاء كما قال خليل في مختصره : والليل قضاء . وذهب أبو حنيفة ، وأصحابه : إلى أن الدم يلزمه بترك رمي الجمرات كلها ، أو رمي يوم واحد من أيام التشريق ، وكذلك عندهم رمي جمرة العقبة ، فرمي جمرة العقبة ورمي يوم من أيام التشريق ، ورمي الجميع سواء عندهم يلزم في ترك كل واحد منها دم واحد ، وما هو أكثر [ ص: 471 ] من نصف رمي يوم عندهم كرمي اليوم يلزم فيه الدم ، فلو رمى جمرة وثلاث حصيات من جمرة ، وترك الباقي ، فعليه دم ; لأنه رمى عشر حصيات وترك إحدى عشرة حصاة ، فإن ترك أقل من نصف رمي يوم كأن ترك جمرة واحدة ، فلا دم عليه ، ولكن عليه الصدقة عندهم ، فيلزمه لكل حصاة نصف صاع من بر ، أو صاع من تمر ، أو شعير إلا أن يبلغ ذلك دما فينقص ما شاء هكذا يقول . ولا أعلم له مستندا من النقل ، وقد قدمنا أن الدم يلزم عند أبي حنيفة بفوات الرمي في يومه وليلته التي بعده ، ولو رماه من الغد في أيام التشريق ، وخالفه في ذلك صاحباه . ومذهب في هذه المسألة فيه اختلاف يرجع إلى قولين : الشافعي
القول الأول : وعليه اقتصر صاحب المهذب : أنه إن ترك رمي الجمار الثلاث في يوم من أيام التشريق لزمه دم ، وإن ترك ثلاث حصيات من جمرة ، فما فوقها : لزمه دم لأن ثلاث حصيات فما فوقها يقع عليها اسم الجمع المطلق ، فصار تركها كترك الجميع ، وإن ترك حصاة واحدة فثلاثة أقوال :
الأول : يجب عليه ثلث دم .
والثاني : مد .
والثالث : درهم . وحكم الحصاتين كذلك ، قيل : يلزم فيها ثلثا دم ، وقيل : مدان وقيل درهمان ، فإن ترك الرمي في أيام التشريق كلها ، فعلى القول المشهور عندهم أنها كيوم واحد ، فاللازم دم واحد . وإن قلنا : بأن كل يوم منفرد بوقته ، فثلاثة دماء ، وإن ترك رمي جمرة العقبة يوم النحر ، ورمى أيام التشريق ، فعلى القول بأن رمي يوم النحر كرمي يوم من أيام التشريق ، لزمه على القول الأول أنها كيوم واحد دم واحد ، وإن قلنا : بانفراد رمي يوم النحر عن أيام التشريق ، لمخالفته لها وقتا وعددا ، فإن قلنا : بالمشهور أن أيام التشريق كيوم واحد ، لزمه دمان ، وإن قلنا : بانفراد كل يوم منها عن الآخر بوقته ، لزمه أربعة دماء .
القول الثاني : أن الجمرات الثلاث كلها كالشعرات الثلاث ، فلا يكمل الدم في بعضها بل لا يلزم إلا بترك جميعها ، بأن يترك رمي يوم ، وعليه فإن ترك رمي جمرة من الجمار ، ففيه الأقوال الثلاثة المشهورة عندهم ، فيمن حلق شعرة أظهرها : مد ، والثاني : درهم ، والثالث : ثلث دم ، فإن ترك جمرتين ، فعلى هذا القياس ، وهو لزوم مدين ، أو درهمين ، أو ثلثي دم ، وعلى هذا لو ترك حصاة من جمرة ، فعلى أن في الجمرة ثلث دم يلزمه في الحصاة جزء من واحد وعشرين جزءا من دم ، وعلى أن فيها مدا أو درهما ، ففي الحصاة [ ص: 472 ] سبع مد ، أو سبع درهم ، وللشافعية في هذا المبحث تفاصيل كثيرة ، تركناها لطولها ، ومذهب الإمام أحمد : أن من أخر الرمي كله عن أيام التشريق . لزمه دم ، وعنه في ترك رمي الجمرة الواحدة دم ، ولا شيء عنده في الحصاة ، والحصاتين وعنه يتصدق بشيء . وروي عنه أن في الحصاة الواحدة : دما كقول مالك . وروي عنه أن في ثلاث حصيات : دما كأحد قولي ، وفيما دون ذلك كل حصاة مد كأحد الأقوال عند الشافعية والعلم عند الله تعالى . الشافعي
وإذا عرفت أقوال أهل العلم في حكم من أخل بشيء من الرمي ، حتى فات وقته .
فاعلم أن دليلهم في إجماعهم على أن وجب عليه دم ، هو ما جاء عن من ترك الرمي كله رضي الله عنهما أنه قال : من نسي من نسكه شيئا ، أو تركه ، فليهرق دما ، وهذا صح عن ابن عباس موقوفا عليه ، وجاء عنه مرفوعا ولم يثبت . وقد روى ابن عباس مالك في موطئه عن ، عن أيوب بن أبي تميمة السختياني ، عن سعيد بن جبير قال : من نسي من نسكه شيئا إلى آخره باللفظ الذي ذكرنا وهذا إسناد في غاية الصحة إلى ابن عباس كما ترى . وقال ابن عباس البيهقي في سننه : أخبرنا ، ثنا أبو زكريا بن أبي إسحاق المزكي ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب أنبأ محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، ابن وهب ، أخبرني عبد الله بن عمر ، ، وغيرهما : أن ومالك بن أنس ، أخبرهم عن أيوب بن أبي تميمة ، عن سعيد بن جبير أنه قال : من نسي من نسكه شيئا ، أو تركه فليهرق دما اهـ . عبد الله بن عباس
وقال النووي في شرح المهذب : وأما حديث : " " فرواه من ترك نسكا فعليه دم مالك ، والبيهقي ، وغيرهما بأسانيد صحيحة ، عن موقوفا عليه لا مرفوعا ، ولفظه : عن ابن عباس مالك ، عن أيوب ، عن أن سعيد بن جبير : قال : من نسي من نسكه شيئا ، أو تركه فليهرق دما قال ابن عباس مالك : لا أدري قال : ترك أم نسي قال البيهقي : وكذا رواه ، عن الثوري أيوب : من ترك شيئا من نسكه فليهرق له دما وما قال البيهقي ، فكأنه قالهما يعني البيهقي أن أو ليست للشك كما أشار إليه مالك بل للتقسيم ، والمراد به يريق دما سواء ترك عمدا أو سهوا والله أعلم . انتهى كلام النووي .
وقال ابن حجر في تلخيص الحبير : حديث موقوفا عليه ومرفوعا : " ابن عباس " ، أما الموقوف ، فرواه من ترك نسكا فعليه دم مالك في الموطإ ، عنه ، عن والشافعي أيوب ، عن ، عنه بلفظ : " سعيد بن جبير " وأما [ ص: 473 ] المرفوع فرواه من نسي من نسكه شيئا ، أو تركه فليهرق دما ، من طريق ابن حزم عن علي بن الجعد ، ، عن ابن عيينة أيوب به ، وأعله بالراوي ، عن علي بن الجعد أحمد بن علي بن سهل المروزي فقال : إنه مجهول ، وكذا الراوي عنه علي بن أحمد المقدسي قال : هما مجهولان . انتهى من التلخيص .
فإذا علمت أن الأثر المذكور ثابت بإسناد صحيح ، عن . ابن عباس
فاعلم أن وجه استدلال الفقهاء به على سائر الدماء التي قالوا بوجوبها غير الدماء الثابتة بالنص ، أنه لا يخلو من أحد أمرين .
الأول : أن يكون له حكم الرفع ، بناء على أنه تعبد ، لا مجال للرأي فيه ، وعلى هذا فلا إشكال .
والثاني : أنه لو فرض أنه مما للرأي فيه مجال ، وأنه موقوف ليس له حكم الرفع ، فهو فتوى من صحابي جليل لم يعلم لها مخالف من الصحابة ، وهم رضي الله عنهم خير أسوة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أما اختلاف العلماء في لزوم الدم بترك جمرة ، أو رمي يوم ، أو حصاة ، أو حصاتين إلى آخر ما تقدم : فهو من نوع الاختلاف في تحقيق المناط فمالك مثلا القائل : بأن في الحصاة الواحدة دما يقول الحصا الواحدة داخلة في أثر المذكور ، فمناط لزوم الدم محقق فيها ، لأنها شيء من نسكه فيتناولها قوله : من نسي من نسكه شيئا ، أو تركه إلخ ، لأن لفظة شيئا نكرة في سياق الشرط ، فهي صيغة عموم ، والذين قالوا : لا يلزم في الحصاة ، والحصاتين دم ، قالوا : الحصاة ، والحصاتان لا يصدق عليهما نسك ، بل هما جزء من نسك ، وكذلك الذين قالوا : لا يلزم في الجمرة الواحدة دم ، قالوا : رمي اليوم الواحد نسك واحد فمن ترك جمرة في يوم لم يترك نسكا ، وإنما ترك بعض نسك ، وكذلك الذين قالوا : لا يلزم إلا بترك الجميع قالوا : إن الجميع نسك واحد ، والعلم عند الله تعالى . ابن عباس